غالية بنت محمد عقاب المطيري
تقول صاحبتي أخذت مكانا قصِيا في مقهى من تلك المقاهي التي أصبحت شريكا في نسج واقع الثقافة والأدب في مجتمعاتنا، وكانت قد دعتني إليه صاحبته محبة منها لي ويقينا منها أن كتبي ستشكل في القادم ظاهرة ثقافية فريدة، وتريد أن تحظى بشرف السبق، والحقيقة أن إطراءها ذلك هو من غازل مكامن الغرور في داخلي واستحضر سلطان الثقافة الآسر في أعماقي..
فحضرت حضور النجمة المستترة التي أخذت زاوية النجم القطبي البعيدة فأصبحت للناظر إلى السماء يراها تلمع - بين الفينة والفينة - وهذا اللمعان هو من يشد نظر المستدل في عتمة الليل بها فلا يضل طريقه أبدا..
وهكذا كنت في مكاني المنعزل ذاك وقد تلفعت بحجابي فلا يقطع سواده إلا بياض كفٍ يظهر لامعا عندما أغفل عن تغطيته وخاتما صغيرا ذا فص صغير من الألماس زيَّنا بُنْصِري بل بُنصري من زانهُ، هكذا كنت أرى نفسي عندما شد انتباهي حديث رجلين وقورين وهما يتحدثان عن ظاهرة غزت بشكل مخيف واقعنا وهي ثقافة الحشود، وكيف أن وسائل الإعلام والمثقفين والكُتّاب تحركهم تلك الموجة فما أن تعلو بشخص ما. حتى تجد المقالات تترا في مدحه والثناء عليه في جميع المطبوعات، وتتحدث وسائل الإعلام عنه وكل البرامج تتسابق لاستضافته..
هنا تساءلتُ: ماذا يقصدان بشهرة الحشود وثقافتها؟!
وما أن تَشَكَلَ السؤال في خلدي حتى نطق به شخص ثالث قادم ناحيتهما وقد سمع طرفا من حديثهما وخشيت أن تضِيع الإجابة بين السلامات والأشواق الحارة والتحايا التي تراشقوها فيما بينهم، كما تتراشق أقدام اللاعبين المحترفين الكرة..
ولكني تنفست الصعداء عندما سمعت أحدهم يقول يا رجل الكل يعرفها..
ادفع المال في معرض ما ليتهافت القليل من الجمع في وقت حضورك وصدقني ستنطلق البقية نحوك، وهكذا ستباع كتبك وتصبح حديث الساحة
واختفت كلماتهم في أصوات قهقهاتهم
أما أنا فقد استولى عليَّ سؤالٌ وشعور!
شعور بالأسى على واقع الكتابة والثقافة والأدب والحقيقة المُرّة أن جانبا من حديثهم صحيح، للأسف في هذا العصر أصبح اسم الكاتب ومنصبهُ وحضوره الإعلامي هو من يحدد انتشار الكتب في مختلف الفنون والعلوم، وهذا أن دل فهو يدل على هشاشة المجتمعات وضعفها، بل هو مظهر من مظاهر زوال الحضارات.
وهنا ينبري تساؤل مهم: هل الكتابة الجيدة والصنعة الكتابية والمحتوى الجيد هو من يبقي الكتب أم أن أصحابها من يبقونها؟!
والحقيقة أن الكتابة الجيدة هي من ستبقى حتى وإن اشتهر الغث منها..
الكتاب الذي سيبقى هو من يتميز بمحتوى جيد ذي صياغة إبداعية وصنعة بيانية جاذبة ودلالة علمية متجددة في كل فن وعلم، وهذا ما يتضح للدارس والمتفحص للتاريخ فابن تيمية -رحمه الله- على سعة علمه وفقهه لم تخلد كتبه بمثل ما خُلِدتْ كتب تلميذه ابن القيم؛ فزاد المعاد، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، والداء والدواء، من الكتب التي خلدت أبن القيم، وكذلك في الأدب لم تُخلد كتب العقاد.
والعقاد هو الأديب الذائع الصيت كما خلدتْ النظرات للمنفلوطي ولم يُخلد صاحب رواية الحرب والسلام روايته، بل هي من خلدتهُ، وابن المقفع لم يبق بمثل كتاب كليلة ودمنة، والبؤساء هي من أبقت فيكتور هيجو.
وأجاثا كريستي اشتهرت بعد أن جذبت قصصها البوليسية العقول وليس بعد أن تدافعت الحشود إليها.
والسؤال الذي ما زال يدور في خلدي: هل أصبح التدافع والضجيج الإعلامي والإعلانات والتسويق هو من سيحدد في عصرنا قيمة الكتب؟!
وهل شُهرة الكاتب هي من ستحدد ما سنقرأ؟!