د. جمال الراوي
الانتظار!!... هو أصعب الحالات التي تمرّ بها النّفس الإنسانيّة، وقد قيل: «الانتظار أشدّ من الموت»، أثبتت الدراسات النفسيّة بأنّ احتمال حدوث أمرٍ سيء أشدّ وأقسى على النّفس الإنسانيّة من اليقين التام بوقوعه؛ فهؤلاء المجرمون يقفون، ينتظرون خمسين ألف سنة، لا يُرهقهم طول الانتظار فحسب، وإنّما يعذّبهم أكثر أنّهم لا يعرفون مصيرهم!!... وقد حبسهم هذا الموقف الرعيب، وأصابت التوقّعات عقولهم بالشلل التّام... ينتظرون وينتظرون، وفوق هذا وذاك، لا يجدون أيّ خلاص أو نَجَاة مما هم فيه!! يتمنون الموت؛ فلا يحصلون عليه!!
كم من الوقت قضينا -خلال حياتنا الدنيا- ننتظر؟! كنا ننتظر النجاح في مدارسنا... وننتظر أرباح تجارتنا... وننتظر أنْ يأتينا مولود... انتظرنا طويلاً حتى نحّقق أحلامنا... حياتنا كانت ولا تزال مليئة بلحظات الانتظار... وقفنا في طوابير ننتظر دورنا أمام إحدى المؤسّسات الرسمية... وجلسنا طويلاً ننتظر دورنا عند طبيب الأسنان... جميعنا تجرّعنا أنواعاً لا حِصر لها من الانتظار... ما أصعبها وأطولها من لحظاتٍ لا تُنسى!!... انتظرنا في زحمة السير، نأمل أنْ نتخلّص، وتسير سيارتنا دون عائق... وانتظرنا أمام الإشارات الضوئية، عيوننا تُحدّق في ثواني الإشارة الضوئية، نستجديها أنْ تتسارع أكثر حتى نستمر في طريقنا... العزباء تنتظر فارس أحلامها... والتاجر ينتظر تسويق بضاعته... وصاحب الشهادة ينتظر توظيفه... جميعها قوائم انتظار، أخذت من عمرنا الكثير؛ بعضها دقائق، وبعضها الآخر ساعات، ومنها سنوات، ومنها امتدت خلال أعمارنا، ننتظر وننتظر، وقد لا ننال شيئاً مِما انتظرناه!!
والغريب أنّها عوامل عديدة كانت ولا تزال تؤثر في انتظارنا!!... فالنّفس الإنسانيّة تنتظر على الدوام، تعيش أيامها في انتظار... تنتظر الليل حتى تأوي إلى بيتها، وتنتظر الصباح حتى تسعى في رزقها... وتنتظر مجيء مواعيدها في كلّ مراحل عُمرها... بعضها يحمل معها شغف الانتظار للحصول على مكافأة أو جائزة، أو لاستلام راتب... وبعضها الآخر لحظاتٌ تحمل معها آمال في شفاءٍ من مرض، أو الخلاص من أزمة مالية... بعضها تتوّهج لها النّفس الإنسانيّة في تَلَهُّفٍ وشَوْق، وبعضها الآخر لحظاتُ انتظارٍ مليئة بالكُره والمَقت!!
ويتنوّع الانتظار، وتتعدّد أشكاله، وهو وإنْ كان وقتاً مستقطعاً في حياة كلّ إنسان، إلّا أنّ وقعه وأثره ومدى تحمّله يختلف من إنسانٍ لآخر!! وجدت الدراسات النفسيّة بأنّ المترفين والمُنعمين أقل النّاس تحمّلاً للانتظار، تجدهم أحرص النّاس للحصول على المقاعد الأولى، يسعون جهدهم حتى يحصلوا على ما تبغيه أنفسهم في وقتٍ قصير، لأنّ الانتظارَ وقتٌ مُستقطع، يأخذ جزءاً من شَهْوَاتهم ومتعتهم، أمّا هؤلاء المستضعفون الذين يعيشون البُؤس والإمْلاق، ويعانون من العَوَز والفَقْر؛ فقدرتهم على الانتظار لا حدود لها، ينتظرون ولا يملّون من الانتظار، لأنّهم يعرفون بأنّ انتظارهم مِحنة عابرة، وضائقة عارضة، تنتهي مع انتهاء حياتهم القصيرة؛ فلا يعجزهم طول الانتظار، لأنّهم قانعون راضون، لا يُضيرهم انتظار خمسين سنة، بدلاً من انتظار خمسين ألف سنة!!
في حقيقة الأمر؛ قامت دراسات نفسيّة واجتماعيّة على شعوبٍ مختلفة لمعرفة إيقاع الحياة بين مواطنيها؛ فنحن في عصر سرعة، يتسارع فيه الوقت، يريد أنْ يُلغي لحظات الانتظار من حياة الإنسان، يعدّها لحظاتٍ لا فائدة منها، تُرهق الإنسان، وتضيع لحظاتٍ محسوبة من عمره!!... وقد تبيّن أنْ الثقافة المجتمعيّة تلعب دوراً أساسياً في توفير الوقت، وإعطاء الحياة إيقاعاً مُنتظماً مفيداً، ووجدت الدراسة بأنّ للشعوب قيماً واعتبارات مُختلفة للوقت، تقول إحداها بأنّ الريادة هي لأسرع خمس دول، هي: (سويسرا، إيرلندا، ألمانيا، اليابان، وإيطاليا)، بينما كانت أبطأ خمس دولٍ هي: (سوريّا، السلفادور، البرازيل، إندونيسيا، والمكسيك)، وقد اعتمدت الدراسة على دِقّة المواعيد في هذه الدول، وعلى نظام الزمن والانتظار... ففي الدول الرائدة في سرعة إيقاع الحياة، جعلتهم مدنيتهم وحضارتهم ينجحون في قتل دقائق الانتظار، والتقليل من أعدادها، بينما الشعوب الأخرى بقيت لا تعرف أيّ قيمة للوقت؛ فأهلكها طول الانتظار، تقف في محطة القطار، تنتظر وتنتظر، لا تدري بأنّ القطار انطلق، يحمل معه حظوظها في العيش الكريم، وترك لهم الانتظار، حتى يُرهقهم؛ فيموتوا كمداً على عمرٍ ضائع، قضوه في الانتظار!!
هؤلاء الذين جعلوا من إيقاع الحياة سريعاً منتظماً، ربطوا كلّ ثانية ودقيقة في عجلة الإنتاج، حسبوا مردودها المادي والاجتماعي، وأصبح الانتظار مذموماً مَعِيباً مَنْبُوذاً، ولم تعدْ شعوبهم تحتمل الانتظار، نظراً لأنّهم استشعروا قيمة الوقت، وعرفوا أنّ حياتهم قصيرة، عليهم أنْ يستثمروا كلّ دقائقها فيما يُفيدهم... وقد أثبتت الدراسات بأنّ هذه الشعوب أكثر رقيّاً بسبب حرصهم على استثمار الوقت، يجرون الدراسات في مؤسساتهم -بين الفينة والأخرى- لمعرفة الوقت المفيد الذي يقضيه موظفوهم والعاملون عندهم؛ فوجدوا بأنّه لا تضيع من ثماني ساعات عملٍ سوى ساعة واحدة أو ساعتين على الأكثر، يقضونها للدخول إلى الحمام، أو لأخذ فنجان قهوة، بينما المتخلّفون فلا يتجاوز الوقت المُفيد سوى ساعة واحدة أو ساعتين، يقتل الموظفون والعاملون بقيّة الساعات في اللهو والشراب والأكل، وفي الأحاديث المُملّة!!
هؤلاء الذين قتلوا الانتظار وقضوا عليه، استبدلوا طوابير الانتظار، وأراحوا شعوبهم... كلّ ما يبتغوه يأتي إليهم على عجلٍ، يتسابقون فيما بينهم؛ أيهم أسرع خدمة، وأكثر كفاءة في قتل دقائق الانتظار... ليس لديهم أزمات، ولا طوابير انتظار... مواعيدهم دقيقة، لا يتأخرون عن مواعيدهم... للحياة -عندهم- إيقاعٍ سريع حَثِيث، لا يعرفون التلكؤ والتهاون والتريّث مع الوقت... يقول لك أحدهم سيأتيك الساعة الثامنة؛ فتفاجأ به يقف عند باب بيتك الثامنة إلّا خمس دقائق، بينما مواعيدنا مطّاطة، الساعة تعني ساعتين، وبعد المغرب تعني بعد العشاء، والسنة تأخذ العمر كلّه، فكم من وعدٍ انتظرناه، ثم مضى العمر، ولم يأتِ ما كنّا ننتظره!!
جميعنا حياتنا مليئة بالتَّرَقُب والتَمَنّي، نتطلّع إلى تحقيق الكثير من الآمال والأحلام، ونتشوّق إلى رؤيتها في واقعنا، ننتظرها ونصرف الكثير من وقتنا، نتخيّلها أصبحت بين أيدينا... بعضها نرفض صرف النظر عنها، لأنّها أحد أسس الحياة، بدونها تفقد قيمتها، كالزواج والوظيفة والبنين وغير ذلك كثير، جميعها مُثقلة بالتوقّعات؛ فتصيب حياتنا بالشلل، ولا نعود نتقدّم خطوة واحدة، ننتظرها... فتتناوبنا لحظاتُ الخَيْبَة والقُنوط مع لحظات الأمل والرجاء... قد نسأم منها، ونضجر لطول انتظارنا لها؛ فنستسلم لليأس، وقد يأتي اليوم الذي نصرف عنها النظر، ونعلن اِنْكِسارنا وهزيمتنا... فكم من عانسٍ فقدت الرجاء وأمضت بقيّة عمرها وحيدة!! وكم من عقيمٍ رضخ واستكان لقدره، وعرف أنْ لا حظّ له في الذريّة والبنين!! وكم من طالبٍ فشل في دراسته؛ فتركها وبدأ يبحث عن عملٍ يرتزق منه!!
لا شكّ بأنّ النفس الإنسانيّة لديها هلعٌ وخوف من المجهول، تُفكّر بالمستقبل، وتخاف منه، لديها «عدم احتمالٍ للغموض» Intolerance of Uncertainty، تختلف درجة الخوف من المجهول بحسب تركيبة كلّ نفسٍ، وتختلف قدرة الاحتمال من نفسٍ لأخرى، وقد أوجد علم النّفس الحديث اصطلاحاً جديداً أسماه «الهشاشة النفسية» Psychological fragility، هي عبارة عن حالة من الرقّة المبالغ فيها، و لُيُونَة متمادية، مع سرعة انكسار وانهزامٍ في مواجهة التحديات المختلفة؛ فالشخص الذي يعاني من الهشاشة النفسية يرى معظم التحديات والمصاعب تهديداً له ولحياته، يخاف كثيراً من المستقبل والمجهول، تراه غارقاً في الأفكار والمشاعر السلبية، تسيطر عليه الأزمات النفسية، لأنّه لا يحتمل الانتظار!!... إنّ تأخر ابنه عن الحضور إلى البيت، تبدأ الوساوس تسيطر عليه، وتشغله عن كلّ شيءٍ من حوله!!... وإنْ تأخر أحد أفراد أهله في الوصول من سفرٍ، يصيبه شيءٌ من الهذيان؛ فتبدأ مخيّلته بتصوّر حوادث الطيران، وغيرها من هواجس!!
قام الدكتور «والتر ميشيل» بإحدى التجارب النفسيّة الغريبة عن الانتظار؛ فأحضر مع فريقه مجموعة من الأطفال تراوح أعمارهم ما بين الرابعة والخامسة، وأجلسوهم في غرفة مغلقة، ووضعوا في الوسط طاولة عليها قطعة حلوى مُخصّصة لكلّ واحدٍ منهم، وأخبروهم بأنّهم سوف يعطوهم قطعة حلوى ثانية في حال انتظروا ربع ساعة، وتمّت مراقبتهم، فوجدوا أنّ معظمهم لم ينتظروا، وأكلوا قطعة الحلوى!! وبعد سنوات -في مرحلة الثانوية العامة- قاموا بفحصٍ جديد على الأطفال؛ فوجدوا أنّ الذين قاوموا إغراء الحلوى، أصبحوا سعداء ناجحون في حياتهم، أجسامهم رشيقة، لديهم قدرة عالية على ضبط أنفسهم، على النقيض من هؤلاء الذين أكلوا الحلوى، لأنّ -في طبيعتهم- العَجلة والطَيْش، ويفتقدون للتَّمَهُّل التأنّي... هذه التجربة النفسيّة، تؤكد بأنّ هؤلاء الذين يحتملون زمن الانتظار، ولا يستعجلونه؛ هم الصّابرون، الذين ارتفعت عزائمهم، وتعالت هِممهم.
في حقيقة الأمر؛ يترافق الانتظار مع حالة «اللا يقين»؛ فيشعر الإنسان بالقلق على ما ينتظره، هل سيتحقّق أمْ سوف يتعسّر؟! هل سوف يحدث عائق أو عارض يؤخره، أو يمنعه عنه؟! أو أنّه سوف يحدث أمرٌ سيئٌ يمنعه من الحصول عليه؟!... فيبدأ الوقت يرمي بثقله عليه، ينظر إلى عقارب ساعته، يستعجلها حتى تتسارع أكثر، وتلغي الزمن من حياته!!... ولعلها لحظات الانتظار هي الوحيدة التي يشعر الإنسان بأنّها غير محسوبة من عمره، وأنّها لحظاتٌ طارئة، لا يرغب في تسجيلها في عدّاد عمره... معظم النّاس يرغبون في معرفة الغيب، واستكشاف المجهول، وهذا ما جعل الكثير من الصحابة والصالحين يتمنون أنْ لم يُخلقوا خوفاً من مصيرهم في الآخرة.