محمد سليمان العنقري
قد يكون عند نشر المقال قد اتضح من الفائز بانتخابات الرئاسة الامريكية والتي تعد واحدة من أكثر الدورات مداً وجزراً بتاريخ السياسة الامريكية من حيث تغير توقعات الفائز المحتمل، وقد يكون الجواب على عنوان هذا الموضوع بديهياً لدى الكثير، بأنها القوة الأولى بالعالم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وعملتها الاولى بالاحتياطيات والإقراض والتبادل التجاري، وتسعر بها كل السلع وقوة دولارها تاتي من ركائز قوتها بكل المجالات، والثقة التي يتمتع بها بعد ان اختبر بأزمات مالية واقتصادية عالمية عديدة، وأثبت متانته لأن خلفه دولة مرنة باقتصادها وسياساتها النقدية والمالية، اضافة لقوتها السياسية بتحالفاتها وكذلك عضويتها الدائمة في مجلس الامن والتفوق التكنولوجي الهائل وجيشها القوي والمنتشر عالمياً بحوالي 600 قاعدة عسكرية.
لكن أهمية الانتخابات الامريكية لتحديد هوية الرئيس القادم لا تقف عند تلك النقاط فقط فهذه الدورة تحمل في طياتها صراعاً من نوع مختلف بين مرشح يعتبر مستقلا قادما من عالم المال والأعمال، وان كان ينتمي للحزب الجمهوري لكنه ليس سياسياً عريقاً بل يعتمد على الخطاب الشعبوي والصراحة التي يهاجم بها خصومه، وهو الامر الذي وجه له انتقادات عديدة حتى من الحزب الذي يمثله لكنه حالياً هو الابرز بين الجمهوريين كما أنه يمثل فكرا مختلفا بنظرته للحكم، فهو يردد ان أميركا ستضيع اذا لم ينتخب، وهو حقيقة يعبر عن تيار قادم من طبقة غير سياسية بل إنها ملت أهل السياسة واعتبرت انهم بعيدون عن تحقيق طموحاتهم وآمالهم، خصوصا انه يدعو لإيقاف الحروب والتركيز على الاقتصاد ومعالجة التضخم ومنع وصول الصين للسيطرة على الاقتصاد العالمي وإجبار أي شركة أجنبية كبرى أو بصناعات مهمة أن تفتح مصانعها بأميركا وإلا فرض عليها رسوم عالية؛ فهو يميل للحمائية، ويعتبر التحالفات مع الدول أساسها الوحيد عقد الصفقات التجارية، ويطالب الاوروبيين بتحمل نفقات كبيرة بحلف الناتو لحماية بلدانهم، كما أن رؤيته للقضية الفلسطينية في صالح اسرائيل وتنهي عملياً حلم دولة فلسطينية تماما، واتضح ذلك بفترة رئاسته السابقة حيث نقل السفارة الامريكية للقدس للاعتراف بها مستقبلاً عاصمة للكيان الاسرائيلي وهو أمر يعد كارثيا في هذا الملف الحساس جداً بأهم قضية في العالم.
أما داخلياً وهو الامر الذي وحد جبهات عديدة ضده أنه يعلن صراحةً بانه سيدمر اليسار الليبرالي وفكره المنفلت في قضايا حساسة جداً كالمثلية وغيرها والتي يسعون لتصديرها خارجياً، وهذا ما جعل كثيرا من شعوب دول العالم تتمنى فوزه لينهي تيار اليسار الذي واجهته اوباما وبيلوسي وغيرهم ويمثلون دولة عميقة حسب وصف ترمب كما أنه ينوي العودة لزيادة انتاج الطاقة التقليدية من النفط والغاز، ونحو ذلك ولا يعترف باتفاقيات المناخ التي خرج منها بفترة رئاسته الأولى.
أما المرشحة كامالا هاريس فهي تسير بنهج الحزب الديمقراطي وجناح اليسار الليبرالي فيه وبذلك هي امتداد لمن سبقها خصوصا اوباما الذي اصبح اكثر ظهوراً منها في التجمعات الانتخابية لدرجة ان الكثير في اميركا قالوا بأنه يبدو هو المرشح الحقيقي وليس هاريس فهو يحاول استخدام شعبيته بمناصري حزبهم وخطابه الحماسي القوي في دعم هاريس بحيث يغطي على نقص الخبرة التي تعتريها في مواجهة الاعلام والجمهور، والذي اتضح بمقابلاتها ومناظرتها مع ترمب والتلقين المفضوح الذي يقوم به فريق حملتها، وقد وقعت بفخ الاجابات البعيدة عن مضمون الاسئلة الموجهة لها باكثر من مرة، وبدا وكانها لا تعرف شيئاً عن اقتصاد بلادها وبعض قضايا المجتمع الا ان خلفها حزبا نشطا اعلامياً ودعم مالي كبير لحملتها، اضافة لجيش من وسائل الاعلام يقف بصفها ومبرراً كل ما تقع فيه من اخطاء، لكن نهجها سيكون الاستمرار بدعم افكار اليسار الليبرالي والتي برفضها جزء كبير من الامريكيين إضافة لرفضها باغلب الدول حيث حاولت ادارة بايدن تصدير هذه الافكار وتحريك بعض الاذرع المالية والاقتصادية التي تسيطر عليها لفرض شروط على دول فقيرة بان تسمح بحريات للمثلية، وغير ذلك مقابل الموافقة على منحها قروضا هي بحاجة لها وهو الامر الذي جعل تلك الدول تتجه للصين في شراكاتها التجارية وااتمويلية لأنها لا تتدخل بشؤون الدول كما انها ملتزمة بقضايا المناخ ووقف السماح بانتاج النفط باميركا بينما ينظر لها عالمياً ايضا من خلال تاريخ اوباما وبايدن ان بزمنهم اندلعت حروب في عديد من مناطق العالم ويخشون ان تستمر لتحقيق اهداف بعيدة المدى تساعد اميركا ببقائها القوة الاولى بالعالم
الانتخابات الامريكية مهمة جدا لاهمية اميركا عالمياً وتاثيرها البالغ في كل القضايا والمجالات والملفات، ومع تحول العالم لقرية صغيرة اصبح أيضا التاثير الثقافي بالغ الحساسية، واميركا تمتلك أغلب منصات التواصل الاجتماعي وآلة اعلامية ضخمة ونفوذ بالغ بكافة المؤسسات العالمية، وهو ما يجعل من متابعة الانتخابات الامريكية الحدث الأبرز دائماً وفي هذه الانتخابات تحديداً لانها تتجاوز المفاهيم التقليدية السابقة لفوز احد الحزبين الى انه اصبح ينظر لكل طرف ببعد اوسع نطاقاً في التاثير عالمياً خصوصاً في الافكار الليبرالية الحديثة التي يتبناها الديمقراطيين ويعملون على تصديرها اضافة للتلويح بسلاح التكنولوجيا، وسيطرتهم عليه وعلى مدخلات انتاج الاجهزة المشغلة له؛ مثل الشرائح الالكترونية وتقنيات الذكاء الاصطناعي وبالمقابل يأتي فكر ترمب وما يمكن تسميته بالجمهوريين الجدد ومن يؤيدهم لاقامة علاقات دولية بمفهوم مربك حتى لحلفائهم في الناتو، ويعتمد على مصالح ضيقة ويميل للحمائية التي تعد خطراً يواجه الاقتصاد العالمي.