أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
ومن القضايا المنهجية المهمة الأخرى التي تأثر بها الغرب الأوروبي شروط ابن سينا التجريبية السبعة التي تجلى أثرها بوضوح في قواعد الاتفاق والافتراق والتغير النسبي الثلاثة التي وضعها جو ستيوارت ميل في تحقيق الفروض. فالقاعدة الأولى في حقيقة الأمر عند ميل هي السادسة عند ابن سينا بينما تتقابل القاعدتان الثانية والثالثة عند ميل مع نظيراتهما العددية عند ابن سينا (موسى، 1982م). وينسحب هذا الأمر أيضا على مجموعة القواعد التي وضعها بيكون لإجراء التجريب بمرحلتيه المختلفتين: مرحلة التجريب ومرحلة تسجيل التجربة وتنويعها وخاصة قواعد المرحلة الأولى التي تشملها الشرائط السبعة للتجربة كما وضعها ابن سينا (موسى، 1982م). وأزيدكم هنا من الشعر بيتا. فقد عنيت بعض أعمال علماء المسلمين ومنها خاصة أعمال ابن الهيثم العلمية في البصريات تحديدا على سبيل المثال لا الحصر بعديد من الدراسات والأبحاث في أوروبا، فقد نشر توسكانيللي مثلا ما استنسخه من نظريات الحسن بن الهيثم في البصريات ووضع ويتيلوا كتابا في علم المرئيات معتمدا هو الآخر على ما استله من آراء هذا العالم الفذ. كما أثبتت بعض الدراسات أن نيكولاس كوبرنيكوس (1473م - 1543م) قد استنسخ مثلا نماذج رياضية وحسابية ورسوما هندسية ونماذج فلكية لخطوط الطول من النظرية التي صاغها قبله بنحو مائتي عام أبوالحسن علاء الدين بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري الدمشقي المعروف بابن الشاطر (1304م و1375م). وقد حفظ ابن الشاطر تلك النظرية في كتابه «نهاية السؤال في تصحيح الأصول» الذي أكد فيه، قبل أن يصيغ كوبر نيكوس نظريته، أن الشمس وليست الأرض هي مركز المجموعة الشمسية وأن مختلف الكواكب هي التي تدور حول الشمس وليس العكس كما زعم بطليموس في غابر الزمان. ووفقا للفيلم الوثائقي الموسوم «ابن الشاطر: فلكي العرب» الذي انتجته قناة الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة «العلماء المسلمون» فقد عثر عام 1973م على مخطوطات عربية لابن الشاطر في بولندا بعد أعوام من وفاة كوبرنيكوس الذي اتضح أنه كان ينقل منها وينسبها إلى نفسه فضلل نتيجة لذلك بنظريته المزعومة أناسا كثيرين. والأدهى والأمر من ذلك أن كوبرنيكوس قد استنسخ الرسم الهندسي لكوكب عطارد بما فيه من أخطاء من كتاب ابن الشاطر دون الإشارة إلى ما استنسخه. وقد ترتب على ذلك الاستنساخ غير الواعي ارتكاب كوبر نيكوس أخطاء إضافية في شرح ذلك الرسم الأمرالذي جعل علم الفلك نويل سويردلو وغيره يتساءلون، حسب مقال عبد ربه الطيهفي الموسوم «الثورة الكوبرنيكية: المسكوت عنها» المنشور بالوطن في 19 مارس 2023م، عما إذا كان كوبرنيكوس قد استل ما طاب له من أعمال ابن الشاطر وغيره دون أن يفهمها أو يستوعبها بشكل كامل. ومن الدلائل الصارخة الأخرى على استنساخ كوبر نيكوس من مصادر أخرى غير مصادر ابن الشاطر دون الإشارة إليها، البحث الذي حبره مايكل نوسونو فسكي عام 2018م بعنوان «الرابط المفقود بين نصر الدين الطوسي ونيكولاس كوبر نيكوس» الذي أكد فيه اطلاع كوبر نيكوس على أعمال ذلك المرصد واستنساخها لصالح بعض قضاياه قائلا: «إن الشكليات الرياضية لعلماء المسلمين في مرصد مراغة متطابقة مع الشكليات الرياضية التي وصفها كوبرنيكوس».
كما أشار ويلي هارتنر رئيس الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم في كتابه «كوبرنيكوس، الرجل العمل وتاريخه» إلى التطابق بين براهين ورسوم كوبرنيكوس والطوسي مؤكدا بذلك اطلاع كوبرنيكوس على أعمال الطوسي، وعلى وجه الخصوص مزدوجة الطوسي التي استنسخها كوبرنيكوس عنه وفقا لجورج صليبا دون الإشارة إلى ذلك. وقبل أن أختم هذا المقال الشائك أود التنويه إلى أن ابن سينا، وفقا لما ذكره يوسف فرحات في موسوعته الموسومة «علماء العرب» في طبعتها الأولى المنشورة عام 1968م، هو أول من اكتشف محدودية سرعة الضوء قبل إنشتاين بعقود عديدة وأن سرعة الضوء أعظم بكثير في حساباته من سرعة الصوت. كما أثبتت بعض المراجعات العلمية أن ابن قرة وابن سينا والخازن والهمداني والبغدادي هم الذين أسهموا في كشف الستار عن ظاهرة الجاذبية بقرون عديدة قبل ذيوع قانون نيوتن للجاذبية الذي يتطابق نصه دلاليا مع قوانين هؤلاء العلماء الآنف ذكرهم أعلاه. ووفقا لما ذكره فرحات في كتابه المشار إليه أعلاه فقد سجل الخازن سبقا على غيره في مسألة الجاذبية وخاصة ما يتعلق بالعلاقة التي رصدها بين سرعة الجسم والبعد الذي يقطعه والزمن الذي يستغرقه. وأخيرا تكشف الأطر المرجعية المقارنة على ندرتها، مدى التطابق الدلالي بين متون قوانين نيوتن الثلاثة للحركة ونظائرها الواردة في «الإشارات والتنبيهات» لابن سينا و»المعتبر في الحكمة» للبغدادي و»المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات» للرازي و»المناظر» لابن الهيثم.