د. شاهر النهاري
أحكم على ذلك بما يظهر لنا من قلة من يعملون في هذا المجال الفني المفيد، ونقص مدارسه، وعدم اعتماده غالباً كدليل مساعد في التحقيقات الجنائية ولا في الصور التعريفية بالجناة في البحث والتقصي.
بينما نراه فنا أصيلا معمولا به في الدول الأجنبية، ليس فقط في الأفلام الوثائقية، ولكنه يثبت في حالات البحث والقبض على جناة في حالات متعددة، تجعلنا ننبهر من فنيات هذا العمل، ونندهش من قدرة الاتقان، التي يمتلكها هؤلاء الفنانون التشكيليون، الذين يجيدون تلك الصنعة، ويكون لهم من خلفها قصص إبداع وسبق وتاريخ، ما يجعلها مورد رزق بالعمل ضمن الأجهزة الأمنية وبما يملكه الفنان من قدرة ليس فقط في الرسم، ولكن في التعمق النفسي، وإجادة استنطاق الشاهد، وبما يجعله يقترب كثيرا من ملامح الجاني، مهما كانت في البدايات غير متضحة.
هؤلاء الفنانون التشكيليون يوجد لديهم حس، وقدرة على التخيل، والموازنة، بحيث يصل الرسم لما يطابق الواقع البعيد، ويؤكده.
يقوم كل فنان بصنع نماذج متعددة لكل جزء وزاوية بالوجه الإنساني، تكون إما مرسومة على ورق شفاف، أو من خلال برنامج حاسوب، فيبتدئ الشاهد بسؤال عن لون الوجه، وعندها يقوم باستعراض تدرجات ألوان للبشرة، من الأبيض إلى الأسود الغامق.
ثم يعرض عليه أشكال محيط الوجه، وهل هو ناحل، ممتلئ أو مدور أو بشكل بيضاوي، أو مستطيل، وغيرها من المميزات ومناطق الترهل والعلامات البارزة.
ثم ينتقل لشكل شعر الرأس أو الصلع، ويعرض على الشاهد نماذج تضم أغلب القصات، حتى يتمكن الشاهد من اختيار احداها.
بعدها ينتقل الرسام للعين على اعتبار أنها من أهم الأجزاء المؤثرة في النفس، شكل فتحة العين واستدارتها، ولون الحدقة، وما يجاورها من الحاجب والرموش، وباختيارات عديدة تمكن الشاهد من خلالها تحديد ما يتذكره، وربما أنه لا يتذكر كل التفاصيل مرة واحدة، ولكن الفنان الماهر يتدرج معه، ويعطيه الوقت الكامل للتخيل والربط بين الاحتمالات، والعودة وتغيير بعض الملامح، مع استمرارية وتصاعد قدرة التحديد.
ثم ينتقل بعدها لشكل الفم والأسنان، ويعرض على الشاهد أعدادا من الصور لتحديد شكل الشفتين، غليظتين أو رقيقة حادة، أو احتوائها على اعوجاج أو علامة فارقة، وكذلك حجم الأسنان، بروزها لمعتها من عدمه، ووجود أي علامات فارقة مثل الكسور، أو الفتحة بين الثنايا، ووجود أي حشوات أو اختلال أو بريق أو غيرها.
ثم ينتقل الفنان للأنف، فهل هي ضخمة افريقية، أو صغيرة أسيوية، أو متوسطة، أو أنها تحتوي على شكل فتحات غريبة مميزة، وغيرها من المزايا، التي تساعد على تكوين صورة وجه الجاني، مع التركيز على ما يلبسه على رأسه.
كل ذلك عبر الشرائح، التي يقوم الفنان باستعراضها، لجعل الذاكرة ترسخ عند الشاهد، وتكتمل في عينه، ووعيه.
الفنان الخبير المحترف سيمتلك شرائح صوره الخاصة، ولن يعتمد على شرائح مأخوذة من مراجع عالمية، معلنا خصوصية مجتمعه، ومشاهداته الخاصة، مع معرفته بما يوجد في المراجع، وما يمكنه الاعتماد عليه، المهم أن يحصل في النهاية على شكل متوقع لوجه الجاني، وغالبا ما تكون الصورة النهائية مدهشة سواء لقوات الأمن، أو حتى للشاهد بذاته، نظرا لقربها من الحقيقة، وفائدتها.
بعض من سيقرؤون موضوعي هذا، من الفنانين التشكيليين، سيؤكدون أن الفائدة قليلة، وأن الفنان حينها لن يكون مشاركا في معارض فنية، وهذا في الواقع عكس ما يحصل، فكثير ينالون حقوقهم المادية، وما أجمل أن يحتفظ الفنان برسماته، وأن يقوم بعرضها في معارض، مرفقة مع الصور الحقيقية للجناة، ليثبت الموهبة، والخبرة، والقدرة على خلق الفائدة.
فئة من الفنانين التشكيليين العرب يجيدون رسم البورتريه، وبدقة متناهية، أو بأشكال كاريكاتيرية تعطي الدلالات على الملامح مهما بالغت الخطوط، وبسرعات يتنافسون فيها بالدقائق القليلة، ومثل هؤلاء مؤهلون لاكتساح هذا المجال، لو وضعوا نصب أعينهم تلك المهمة، وامتلكوا الرغبة، وعملوا قاعدة بيانات خاصة بهم، وتقدموا للجهات الأمنية، لعرض المساعدة، ولو تجريبيا، والتدرج في القدرة والقرب من ملامح الجناة.
وليس المطلوب الدقة والاتقان من أول محاولة، حيث سيحتاجون للوقت، وتكرار التجربة، وتقبل الفشل في مرات، حتى يصلوا إلى حساسية استنطاق الشاهد، وتمكن الرسام المتخصص من رسم الجناة، ومن فم وذاكرة الشهود.
بالطبع لا ننكر أن التقنية والذكاء الاصطناعي في يومنا أصبحت قادرة على تحييد ومحو وتعويض المشاركات البشرية الطبيعية، بوجود عدة تطبيقات معتمدة من الشرطة العالمية تستخدم لرسم الصور التعريفية لوجوه المجرمين إلكترونيا، ما يزيد الضغوط والتحديات على مريدي هذه المهنة بشكلها البشري، وسط تحديات لا تبقي إلا من يحب المهنة لذاتها ويتقنها لنتاجها، ويصر على أنه أذكى من الحاسوب.
الثقافة المحلية مهمة في مثل هذه الأمور، وهي من تحيي هواية ومهنة الفنان، والنمطية المريحة أسرع من يقوم بدفن الموهبة، تبعا لما يجري في المجتمعات المختلفة.
ولو كان الأمر بيدي، كمحب للرسم التشكيلي، لجعلتها مادة تدرس في مختلف معاهد الرسم، لما لها من قرب بالإنسان، وقدرة على تحدي الذكاء الاصطناعي، بكل فخر صاحب الريشة.