أ.د. محمد خير محمود البقاعي
لقد فاتني في الحديث عن كتب الوضع الصحي أن أشير إلى بحثين تناولت فيهما مسألة كتاب بروست وقصة الوصول إلى عنوانه وترجمته. أولهما بحث ترجمت فيه مقالة أخيل بروست «الحج إلى مكة المكرمة وانتشار الأوبئة» ونشرته مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية، مج 8، ع 1، 1423 هـ/2002م. وأتبعته ببحث عنوانه: «أدريان بروست ليس له رحلة إلى الحجاز»، نشرته مجلة الدارة، مج 28، ع 3، 2002 م/1423هـ.
وقد استوفيت في البحثين الحديث عن الطبيب بروست وبيّنت أنه لم يكن رحالة بالمفهوم السائد للمصطلح وإنما موظف صحي في مهمة لخدمة بلاده، كما بينت عنوان كتابه الأساسي.
أما الرحلات فقد ترجمت فضلاً عن رحلة شارل ديدييه التي سبق الحديث عنها رحلة عنوانها: «اثنتان وثلاثون عاما في رحاب الإسلام (1832-1864) للمترجم والدبلوماسي الفرنسي ليون روش=
Léon Roches. Trente-deux ans à travers l›Islam (1832-1864).
اخترت منها مذكراته عن رحلته إلى الحجاز، وصدرت عن دار جداول 2011 .
وليون روس تعلم العربية في الجزائر حيث كان يقيم والده فذهب إليه، وتعلم العربية والتحق بالجيش الفرنسي مترجماً فاستقرت صورته في أذهان كثير من الذين عانوا من تحيزه الذي كان يرميهم في غياهب السجون. ولما ذهب إلى مكة تعرف عليه في عرفات بعض الجزائريين ممن كان يشهد محاكماتهم وبدؤوا يصرخون (غوري غوري)؛ أي نصراني وكانوا على وشك الهجوم عليه لولا تدخل رجال الشريف الأكبر الذين كانوا يتابعون الواقعة فحملوه على وجه السرعة على جمل إلى جدة وجرى تسفيره مما يدل على أنه كان في مهمة استخباراتية. ومن الرحلات التي كتبت عنها وترجمت قسماً منها رحلة الفرنسي المسلم حقاً، الذي ترك فرنسا وهو من أشهر الرسامين الانطباعيين الفرنسيين ليسكن في مدينة بوسعادة في الصحراء الجزائرية إنه ناصر الدين دينيه واسمه بالفرنسية ألفونس إيتيان دينيه
=Alphonse-Etienne Dinet (1861-1929م) استقر في بوسعادة التي سحرته بطبيعتها وأهلها، وهناك تعرف على صديق عمره الذي رافقه في حله وترحاله؛ سليمان بن إبراهيم باعامر رحمه الله، من رجال الأدب والشعر، ولد في بوسعادة بالجزائر عام 1287هـ/1870م، وكان حيا في عام 1338هـ/1919م وأسهم في تأليف كثير من مؤلفات دينيه الذي تعلم بصحبته اللغة العربية فأتقنها.
ومن العجب العجاب أن موقع ويكيبيديا بالعربية لم يأت على ذكر إسلام دينيه ولم يذكر شيئاً عن رحلته إلى الحج مع صديقه سليمان، وحضوره الحفل الذي كان الملك عبد العزيز -رحمه الله - يقيمه لرؤساء بعثات الحج. وقد أورد في ملحقات رحلته الكلمة التي ألقاها الملك المؤسس -طيب الله ثراه- ووضع لها عنواناً دالا كل الدلالة هو: (لسنا أصحاب مذهب جديد).
توفي دينيه في باريس وصلي عليه في مسجدها الكبير، ثم نقل جثمانه ودفن في مدينة «بوسعادة» بالجنوب الجزائري استجابة لوصيّته.
كتبت عنه بحثاً مستفيضاً نشرته مجلة مكتبة الملك فهد الوطنية بعنوان: ناصر الدين دينيه وكتابه «الحج إلى بيت الله الحرام» دراسة ووثائق وترجمة مختارة مج 7، ع 1، 1422هـ/2001م، ص 230-281 .
وفي حوار بعنوان: «الملك عبد العزيز في عيون معاصريه» مع وكالة الأنباء السعودية (واس) بتاريخ 23-9-2022م وهو اليوم الوطني 91. قلت متحدثاً عن شهادة دينيه: أورد في هذا السياق شهادة الفرنسي الفنان الكبير ناصر الدين دينيه الذي كان من كبار الرسامين الفرنسيين. أسلم وجاء إلى الحج عام 1348هـ/ 1929م، وكان الملك عبدالعزيز -حينذاك- قد دخل الحجاز، ونشر فيها ما كانت تفتقده من أمن وأمان، وصحة الأبدان والعقائد، وتقاطرت وفود الحجاج من كل فج عميق بكل راحة ويسر وأمان إلى مهوى أفئدة الناس.
ومما كتبه الفنان الفرنسي ناصر الدين دينيه عن اللقاء الذي كان الملك عبدالعزيز يقيمه لرؤساء الوفود والدبلوماسيين وأثبته ناصر الدين في كتابه «الحج إلى بيت الله الحرام» الذي صدر عام 1929م/1348هـ: «وبعد صلاة العشاء يذهب الجميع لتناول العشاء، ثم لسماع الخطبة التي يلقيها هذا المسلم العظيم، وما هي إلا هنيهة حتى بدأ جلالته بالحديث دون أن يغير شيئاً من هيئته الأولى، فها هو جالس في مكانه وقد انحنى قليلاً نحو الحاضرين، وابتدأ خطابه بإلقاء طبيعي سهل، كان خالياً من تلك الإشارات التمثيلية الثقيلة، سالماً من تلك الحركات المتكلفة الركيكة وتلك الأصوات المزعجة، فالرزانة والرجولة والاعتداد بالنفس كلها سمات تتمثّل في خطبته، ومن العجيب ألا يفارق فطرته التي فطره الله عليها، وهدوءه المعتاد حتى يتحدث عن أخطر المسائل وأهمها، ولم نر منه أي حركة اعتباطية سوى أنه كان يضم سبابتيه حينما يتكلم عن الاتحاد، ويفرق بينهما حينما يتكلم عن التفرّق. كنا في غمار ذلك كله نحس بأن وراء هذا الهدوء وهذه البساطة وهذه الرزانة حزماً وعزماً وبطولة فذة يختص بها».
ومن طريف الحديث عن كتاب الحج إلى بيت الله الحرام أن دينيه أفرد فيه ملحقاً نقدياً تحدث فيه عن رحلات الغربيين إلى مكة المكرمة؛ وهو ملحق في غاية النفاسة شمولاً وإنصافاً للمنصفين وفضحاً للجواسيس والحاقدين. ومن دقة دينيه ونباهته أنه استخدم في العنوان الفرنسي لكتابه اسم الجلالة «الله» بلفظه العربي مكتوباً بالحرف اللاتيني
Le pèlerinage à la maison sacrée d›Allah Publisher: Librairie Hachette. Publication 1930.
لقد كنت على الدوام من القائلين إن تتبع مسارات البحث تفضي بالمرء إلى كثير من الفوائد التي لم تكن في الحسبان عند بدء العمل؛ وهذا ما أفضى بي إليه اهتمامي بناصر الدين ورحلة حجه التي تعد من نفائس الرحلات وأكثرها صدقاً وتفرداً.
لقد اكتشفت أن أديباً جزائرياً من مؤسسي فن القصة القصيرة الجزائرية يتقن الفرنسية هو الأستاذ أحمد رضا حوحو (1910-1956م) هاجر من الجزائر متجهًا نحو الأراضي الحجازية، حيث التحق بكلية الشريعة في المدينة المنورة، وحصل منها على أعلى الدرجات؛ مما أهَّله للعمل بها بعد تخرُّجه عام 1938م، وقد عُيِّنَ بعدها أول سكرتير للتحرير في مجلة المنهل وذلك مدة عامين. ثم انتقل بعد ذلك إلى مكة المُكَرَّمَة وعمِل في مصلحة الهواتف والبرق. وفي عام 1956م تُوُفِّيَ والده فعاد إلى الجزائر وانضم إلى جمعية العلماء المسلمين وكان عضوًا نشِطًا بها، فقبضت عليه الجهات الفرنسية وأعدم في العام نفسه.
نشر حوحو -رحمه الله - في مجلة «المنهل» حلقات متتالية مترجمة من رحلة حج ناصر الدين دينيه، وترجم القسم الخاص بتقويم دينيه تلك الرحلات وما جاء فيها، ولما اكتشفت ذلك قارنت بما أنجزته فوجدت أنه رحمه الله اختصر بعض الجوانب والمعلومات فعزمت على نشر ما أنجزته من تعريف وترجمة ووثائق أهمها وثيقة منشورة في موسوعة الملك عبد العزيز سيرته وفترة حكمه في الوثائق الأجنبية (1999م/1419هـ) مج 17، ص 630- 631. التي سبق الحديث عنها؛ وهي رسالة من دينيه إلى صديقه سكرتير عام في وزارة الخارجية الفرنسية من عام 1920-1933م وهي رسالة عن الحج والملك عبد العزيز. كان اسم ذلك الصديق فيليب - جوزيف لويس بيرتللو Philippe Joseph Louis Berthelot (1866-1934م).
ومجلة «المنهل» التي صدر عددها الأول في شهر ذي الحجة 1355هـ/فبراير (شباط) 1937م. وهي مجلة شهرية أدبية ثقافية، كان ظهور أعدادها الثلاثة الأولى في المدينة المنورة، ثم انتقلت طباعتها إلى مكة المكرمة، ثم استقرت بعد ذلك في جدة (محمد عبد الرزاق القشعمي، المجلات الأدبية الثقافية، 5 مجلة المنهل، صحيفة الجزيرة 1442هـ/2023م).
أما عبد القدوس الأنصاري (1324هـ/ 1906م - 1403هـ/1983م) فهو الأديب والصحفي المخضرم، العالم والمحقق المدقق، والأثري المؤرّخ، واللغوي المجمعي، مؤسس مجلة المنهل، ويعد أحد أبرز رواد الرواية السعودية.
وقد صدرت الترجمة التي أنجزها حوحو في الأعداد الآتية: (المنهل، س 1، ج3، صفر 1356هـ/أبريل (نيسان) 1937م، س 20-23، ص 5، ربيع الثاني 1956هـ/مايو (أيار)1937م، ص 31-33. ج 7، جمادى الثانية 1356هـ/يوليو (تموز) 1937م، ص 27-31، س 1، ج8، رجب 1356هـ/سبتمبر (أيلول) 1937م، ص 30-34).
ونشرت المؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر عام 1984م كتاباً بعنوان: نصر الدين دينيه، الفنان المبدع في الرسم الجزائري، قدم له أحمد طالب الإبراهيمي، قدم الكتاب واختار تعاليقه سيد أحمد باغلي، الطبعة الثالثة، وقد كتب باغلي نبذة عن نصر الدين دينيه وآثاره. ونثبت عن هذه النبذة ثبتا بمؤلفات دينيه. وفي الكتاب عدد من لوحات دينيه ومختارات من آثاره. ويلاحظ أنهم كتبوا: نصر الدين والذي وجدناه على كتبه ناصر الدين. ومن الوثائق التي نشرتها في تالي البحث عن رحلة حج دينيه هذه الصورة للريال السعودي منشورة في أول رحلة الحج وعليه لقب الملك عبد العزيز عندما كان يلقب ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. وسبق القول إنه حج في يونيو (حزيران) 1929م ونُشر الكتاب في عام 1930م.
ويبدو أن الحاج سليمان بن إبراهيم باعامر هو الذي أشرف على طباعة الكتاب بعد وفاة دينيه بدليل هذه الوثيقة التي جاءت في أول الكتاب أيضا بخط باعامر بالعربية والفرنسية.
وفي أول صفحات نسخة الكتاب الفرنسية الموجودة في مكتبة الملك سلمان في جامعة الملك سعود إهداء بالفرنسية بقلم أخت دينيه للملك عبد العزيز مؤرخ بعام 1937م وهذه ترجمتي له.