صباح عبدالله
في هذا الكتاب الكنز الذي كان الإعداد لمحتواه عملاً رصيناً بارعاً يستحق الإشادة، إذ قام الدكتور عثمان خليفة صديق مشكوراً بتجميع درر ثمينة تناثرت بين ثنايا الصحف والكتب، وقام باختيار بعض من مقابلات ومقالات لثلاث عشرة قامة أدبية كتبوها بأساليب بالغة الدقة والجمال، تم نشرها في كتاب بديع تجاوز المائة والتسعين صفحة، وحمل عنواناً أخاذاً وهو (صناعة الأديب) عن دار إدراك المعرفية للنشر والتوزيع، وسنتناول في مقالنا هذا تلكم الأسماء و أهم ما سطروه من وصايا وآداب وخبرات يمكن أن تساعد في بناء الملكة الأدبية باجتزاء مقتبس لبعض ما ورد عنهم حول هذه الصناعة التي لم ندرك أنها كذلك إلا بعد انغماسنا في هذا الكتاب القيم.
كان استهلال الكاتب بعد المقدمة بفصل ذكر فيه أهمية صناعة الأديب ومكانته وأثره حيث أوضح أن العالم الأديب هم من يصوغ المعاني بتأثير بالغ في النفوس حتى يصبح الوعظ ناجحاً والرأي نافذاً والقصص ملهمة ومؤثرة، ليبدأ أولى المقالات مع الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي الذي قال عن تكوين ملكة البيان « أن البيان ما هو إلا إبانة المعنى القائم في النفس تصويراً صادقاً يمثله في ذهن السامع كأنه يراه ويلمسه لا يزيد على ذلك شيئا فإن عجز الشاعر أو الكاتب مهما كبر عقله وغزر علمه واحتفل ذهنه عن أن يصل بسامعه إلى هذه الغاية، فهوإن شئت أعلم العلماء وأفضل الفضلاء وأذكى الأذكياء، ولكنه ليس بالشاعر ولا بالكاتب»، مشيرا إلى عدم الاستكثار من غريب اللغة ونادر الأساليب والهذر في القول وتبسيط الحديث حيث قال «يخيل إلي أن الكُتّاب في هذا العصر يكتبون لأنفسهم أكثر مما يكتبون للناس، وأن كتاباتهم أشبه شيء بالأحاديث النفسية الي تتلجلج من نفس الإنسان حين يخلو بنفسه ويأنس بوحدته» وأردف بعدها قائلًا « البيان صلة بين متكلم يفهم وسامع يفهم، فبمقدار تلك الصلة من القوة والضعف تكون منزلة الكاتب من الرفعة والسقوط، فإن أردت أن تكون كاتباً فاجعل هذه القاعدة في البيان قاعدتك» . وكان هذا الرأي النافع لا يتبعد كثيراً عما ذكره الكاتب وعالم الحديث والتاريخ والأدب الدكتور محمد رشيد رضا وهو صاحب مجلة المنار، حيث قال في تقريض لكتاب المنتخبات العربية « أقرب الطرق إلى تحصيل ملكة الكتابة في المنثور والمنظوم كثرة مطالعة كلام البلغاء وأشعارهم ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من كثرة قراءة الأدب البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه»
ثم كان دور الأديب الأريب مصطفى صادق الرفاعي حيث قال في رسالة بعث بها إلى أحد أصدقائه يرشده فيها للطريق الذي يكون به أديباً: « إن كنت تريد أن تملك ناصية الأدب كما تقول فينبغي أن تكون لك مواهب وراثية تؤديك إلى هذه الغاية وهو أمر لن يعرف إلا بعد أن تشتغل بالتحصيل زمنا فإن ظهر عليك أثرها وإلا كنت أديباً كسائر الأدباء الذين يستعيضون من الموهبة بقوة الكسب والاجتهاد «وفي مقال له تكلم فيه عن الأدب والأديب قال» البيان صناعة الجمال في شيء، جماله هو من فائدته وفائدته من جماله، فإذا خلا من هذه الصناعة التحق بغيره وعاد بابا ًمن الاستعمال بعد أن كان باباً من التأثير، ولهذا كان الأصل في الأدب البيان والأسلوب حتى في جميع لغات الفكر الإنساني لأنه كذلك في طبيعة النفس البشرية» ثم تلا ذلك حديث أمير البيان شكيب أرسلان وهو عالم من علماء الأدب والسياسة ومؤرخ وأحد أعضاء المجمع العربي العلمي إذ قال في جواب عن سؤال في كيفية دراسة الأدب وكيف يصبح الشخص أديباً ؟ فقال:» إن أحسن ما وقفت عليه من حدود الأدب في المعنى الذي تقصدونه هو الأخذ من كل علم بطرف» وقال أيضا: «جمع كلام العرب لا يستلزم دائما الاضطلاع بالأدب بل هناك استعداد فطري يضعه الله في صدر الإنسان وسر في سويداء فؤاده وعقله وقلبه لا يعلمه إلا الذي أودعه، و إنما يزكو على المطالعة ويربو بارتياد الأشكال الملاءمة فمن أودع الله الخالق فيه هذا السر استفاد من حفظ الأشعار والأيام والأنساب وما شابه ذلك، وربى منها ملكة طائلة وبلغة كافية». أما الكاتب الكبير زكي مبارك كأن له رأي بالغ العمق والحقيقة إذ قال في مقال له بعنوان بين الحب والإعجاب:» الأصل في الأدب أن يكون ثورة عقلية وفنية، والأصل في طبيعة الأدب أن يكون قوة موحية تعطى وتمنح وعنها تصدر أقباس الفكر وألوان الخيال» «مرد الأمر إلى ذاتية الكاتب، فاذا كان أدبه أدب وجدان فهو جدير بالحب، وإن كان أدبه أدب ذكاء فهو جدير بالإعجاب،وإن جمع بين الوجدان والذكاء فهو الكاتب المنشود، قد يظن بعض الناس أن الذكاء والوجدان من المواهب الثوابت،وأن من حق الموهوبين أن يتكلموا حين يريدون وهذا توهم» كما تكلم عن الحاسة الفنية ويقصد بها التأملات في دقائق الفروق بين الحيوات الحسية والمعنوية وهي فروق لطاف لا يدركها غير قلب الأديب وعقل الفيلسوف.
أما عن رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق ومؤسسه وصاحب مجلة المقبس محمد كرد علي فقد قال:» لطالما سمعت أستاذي يقول: إن أسلوب المرء يخترعه صاحبه ولا يقتبسه من غيره ولا ينقله من كتاب فهو ابن مزاجه وتربيته وبيئته وذوقه وفنه «، ليأخذنا بعده الكاتب والمفكر العظيم أحمد امين الذي قال في مقال له بعنوان كيف يرقى الأدب: « الأدب خطة تنتهج كمنهج العلم، وأن من نعده للأدب يجب أن نثقفه ثقافة خاصة كالذي نعده للعلم،ولكن من الحق أيضاً أن نعترف أننا لا نخلق الأديب ببرنامجنا، بل لا بد أن تكون قد هياته الطبيعة ومنحته استعدادات خاصة وكفايات ممتازة وتهيؤ لقبول الإلهام، كما هي الحال مع العالم فبرنامج العلم لا يخلق نابغة في العلم إنما يعده، والعالم لابد أن يكون مهيأ للإلهام كالأديب»، أما عن شيخ الأزهر السابق والباحث والأديب محمد الخضر حسين فقد قال في مقال له بعنوان (طرق الترقي في الكتابة) :» ليست هذه الصناعة كغيرها من الفنون، لها قواعد مضبوطة ومسائل مدونة يتدارسها الكتاب فينتهي بهم إلى معرفة إيراد الكلام في معاريض الفصاحة وحسن الاطراد في أنحائها، وإنما هي عبارة عن تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ والتأنق في تحسين هيئاتها التأليفية» « ومن الطرق التي تنهض بالكاتب في زمن يسير وتساعد قوته الصانعة على الإجابة في طرفة عين تطبع في صحيفتها ملكة الهجوم على المعاني وبثها في ألفاظ رصينة غير متوعرة، انحيازه إلى دروب هذه الصناعة، يقف على المنافذ التي يسري منها الخلل إلى التأليف ويبصره بالمذاهب التي ارتقت من نحوها التحارير الفائقة» .
ينبهنا بعده العلامة محمد البشر الإبراهيمي لأمر بالغ الأهمية حيث قال في كيفية تكوين الملكات الأدبية:» إنما يربي الملكات الأدبية الصحيحة ويقومها الإدمان، إدمان القراءة المتأنية المتدبرة لكتب الأدب الحرة الأصيلة، والاستكثار من حفظ الشعر واللغات والأمثال ومعرفة مواردها ومضاربها والتنبه لمواقع استعمال البلغاء من شعراء وخطباء وكتاب ثم ترويض القريحة والألسنة والأقلام على المحاذاة. «ليتعمق بعده الأديب المصري الكبير وأحد كبار الكتاب الذي نال جائزة الدولة التقديرية و صاحب مجلة الرسالة أحمد الزيات حيث قال في إجابة عن سؤال فن الأسلوب:
«الأسلوب كما عرفته في كتابي (دفاع البلاغة) هو طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام وهو مظهر الهندسة الروحية لملكة البلاغة النفسية يبرزها للحس وينقل أثرها المضمر إلى الأغراض المختلفة والغايات البعيدة «. وتكلم بعدها الأديب محمود محمد شاكر عن كيفية تكوين الملكة الأدبية في مقالين أحدهما كان بعنوان (الطريق إلى الأدب) حيث قال في جزء منه :»أول ما تجب معرفته لكل طالب أدب أن لكل علم آلة، ولكل آلة نظاماً، ولكل نظام مبدأ، ولكل مبدأ أصولاً، فاذا فسد الأصل فسد المبدأ والنظام،وتوقفت الآلة حتى يعلوها الصدأ، وإذا وقع بعض الاختلال في بعض الأصول أفضى هذا الاختلال إلى الآلة فجعلها تدور متعسرة ضآلة يتكسر سن منها على سن حتى ينتهي بها ذلك إلى الفساد عامة. «وقال في مقاله الثاني الذي حمل عنوان (الأدب والحرب) : « الأديب في حياته الإنسانية والأدبية يعيش على استمداد الطبيعة الأدبية التي تصيد من مادة الحياة التي يعانيها في كل يوم من أيامه، والتي أوصدتها له طبيعتها لتكون له أبداً صيداً يغذي منه أدبه وفنه ويربي على درة عبقرتيه الأدبية، فالحياة الإنسانية اليومية هي المؤثر الأول في حياة الأديب وهي التي تشكل أعصابه المفكرة كما أنها هي المتصلة بعقل ذلك الأديب الحساس، وهي التي تتناول المادة الفكرية لتصوغها صياغة جديدة من البيان».
الأديب محمد الطناحي قال في مقال له بعنوان (البيان والطريق المهجور):» فالأديب لكي يكتب أدباً عاليا ًجميلاً لا بد أن يكون على صلة لا تنقطع بالقراءة وأن يجعل من يومه نصيباً مفروضاً للمراجعة والاستزادة، فالإبداع لا بد له من مدد والمدد ليس له إلا طريق واحدة القراءة الرشيدة المستمرة ثم التأمل» .
وكان ختام رحلتنا مع الأديب الملهم علي الطنطاوي فقد قال في مقال بعنوان كيف تكون كاتبا؟» ومن الخطأ بعد هذا كله أن يعتقد امرؤ أن الكتابة شيء يكون بالتعليم، فهي شيء فطري في الإنسان، فالكاتب كما قالوا يولد كاتباً، كما يولد الإنسان ذا صوت جميل أو جسم قوي ولكن الجسم القوي لا يستكمل قوته مالم يربه صاحبه التربية البدنية، والملكة الكتابية كذلك لا تكمل ولا تنتج الآثار البارعة مالم تنضجها الدراسة الأدبية العميقة وخير سبيل لذلك هو أن يقرؤوا كتب الأدب القديمة ليتعلموا منها الأسلوب العربي ثم يقرؤوا لأهل البيان من كتاب العصر، ثم يقرؤوا روائع الأدب الغربي لتعينهم على إتقان الأسلوب الفني «، وقال في كلمة نفيسة عن الأديب الذي نحتاجه قال: « نحتاج إلى الأديب الذي قتل التاريخ علماً، وغاص على خفاياه ومعضلاته فأوسعها فهماً، ثم عمد إلى مواطن الفخر ومواقف الأسى فصاغها قصيدة عصماء كل بيت منها بمثابة قطرة من الدم تراق على مذبح الحرية والاستقلال، نحتاج إلى الأديب الذي آمن بعقيدة سامية فيها مصلحة الوطن، ثم وقف على نفسه على الدفاع عنها وتأييدها، نحتاج إلى الأديب الذي ترفع بنفسه عن أقوال الناس، فلا يثيره مدح ولا ذم، ولا يستفزه نقد ولا تقريظ، مادام سالكاً الطريق القويم والصراط المستقيم».