د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
(غير) اسم موغل في الإبهام لا معنى له، إن كان للنفي، إلّا بما يضاف إليه، فهو كالأرقام التي لا تتضح إلا بتمييزها، ولذلك يلازم الإضافة لفظًا أو تقديرًا، نحو: (قرأت كتابًا غيرَ الكتابِ السابق، وأنا أفضله لا غيرُ) أي لا غيرَ ذلك. ذكر العكبري (616هـ) «أنَّ غيرًا لا تتعرفُ بالإِضافةِ، بل نكرة، والنَّكراتُ معرَباتٌ». و»أنَّ غيرًا لا معنى لها إلا بالإِضافة»(1).
وتوسع الناس فاستعملوا (غيرًا) مفردة، غير مضافة، فساغ أن تدخل عليها (ال) فيقال (الغير)، وتعني (المختلف، الآخر، الضدّ)، وجاء هذا الاستعمال في كتب التراث، مثل «522 - وَسَأَلته عَن الْمُتَمَتّع مَتى يجب عَلَيْهِ الصَّوْم قَالَ إِذا خَافَ أَن يقطع بِهِ صَامَ الْحَاجّ عَن الْغَيْر لَا ينْفق من مَال المحجوج عَنهُ على غَيره فِي الْحَجّ»(2)، قال الفارسي (377هـ) «وغيره هو الغير الداخلُ فيما خرج منه (زيدٌ)»(3)، وقال البطليوسي (521هـ) «وإن كان غيره أحدثها له لم يخل ذلك الغير أن يكون إلهًا آخر غيره»(4)، ، وقال العكبري(616هـ) «فَلَمَّا كَانَ لَا بُدّ من استعانتهما بِغَيْرِهِمَا، ترك ذَلِك الْغَيْر مَوْجُودًا مَعَهُمَا وخاطب الْجَمِيع»(5)، وقال ابن الحاجب(646هـ) «إلّا أن يرد ما يمنع فيه تقدير الغير، كقولك: طاب زيد نفسًا»(6)، وقال أبو الفداء(732هـ) «وإنّما يبنى الموصول لمشابهته الحرف من حيث احتياجه إلى الغير في إيضاحه»(7).
ولا بدّ من إدخال (ال) على (غير) مشارًا إليه، قال الفارسي «وجب أن يعود من غيره، وذلك الغير لا يخلو من أحد أمرين»(8).
وقال السهيلي(581هـ) «كما أن الحرف لما دل على معنى في غيره وجب أن يكون له أثر في لفظ ذلك الغير، كما له أثر في معناه»(9)، قال العكبري «أن حرفَ الجَرِّ إنما يكُون له مَوْضِعُ غيره، والنَّظر في ذلِكَ الغيرِ»(10). قال الشاطبي(790 هـ) «فلا يلحق غير الاسم لعدم الحاجة إليه في ذلك الغير»(11). وقال أيضًا «وذلك دليل على أن معناه إنما يتم فهمه بغيره، فذلك (الغير) مفتقرٌ في أصل الوضع إليه»(12). وقال ناظر الجيش (778 هـ) «فكان الأصل في مميز الجملة أن يكون غير الأول، وذلك الغير هو المتعلق»(13)، والمشار إليه لا بدّ أن يحلّى بـ(ال).
ومع كثرة هذا الاستعمال توقف فيه العسكري (395هـ)(14)، ثم الحريري (516ه) قال «[36] وَيَقُولُونَ: فعل الْغَيْر ذَلِك، فَيدْخلُونَ على (غير) آلَة التَّعْرِيف، والمحققون من النَّحْوِيين يمْنَعُونَ من إِدْخَال الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ، لِأَن الْمَقْصُود فِي إِدْخَال آلَة التَّعْرِيف على الِاسْم النكرَة أَن تخصصه بشخص بِعَيْنِه، فَإِذا قيل: الْغَيْر، اشْتَمَلت هَذِه اللَّفْظَة على مَا لَا يُحْصى كَثْرَة، وَلم يتعرف بِآلَة التَّعْرِيف، كَمَا أَنه لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، فَلم يكن لإدخال الْألف وَاللَّام عَلَيْهِ فَائِدَة»(15).
رأينا في النصوص التي اقتبسناها أن (ال) دخلت على (غير) لتعرفه تعريفًا ذكريًّا، وتعرف (ال) الاسم إما تعريفًا عهديًّا وإما تعريفًا جنسيًّا، والمثال الذي أورده الحريري للتعريف الجنسي (فعل الغير ذلك) فليست (غير) هنا النافية بل التي بمعنى (آخر) فكأنه قال (فعل الآخر ذلك)، مثل فعل آخر ذلك. وردّ قوله الخفاجي(1069هـ) قال «ما ادعاه من عدم دخول (أل) على (غير) - وإن اشتهر - فلا مانع منه قياسًا، وإنما المهم فيه إثبات سماعه من العرب، وفي (تهذيب الأزهري) «قال ابن أبي الحسن في (شامله): منع قوم دخول الألف واللام على غير وكل بعض، لأنها لا تتعرف بالإضافة فلا تتعرف باللام، قال: وعندي لا مانع من ذلك؛ لأن اللام ليست فيها للتعريف، ولكنها اللام المعاقبة للإضافة، نحو قوله: «كَأَنَّ بَيْنَ فَكِّهَا وَالْفَكِّ»(16) أي وفكّها، وقوله تعالى: «فَإنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» [النازعات: 41] أي مأواه، على أن غير قد تتعرف بالإضافة في بعض المواضع، وقد يحمل الغير على الضد والكل على الجملة والبعض على الجزء، فيصح دخول اللام بهذا المعنى»(17). وصحح أستاذنا أحمد مختار عمر (1424هـ) دخول (ال) على (غير) موافقة للخفاجي ولقرار مجمع اللغة في القاهرة(18).
يظهر مما سبق أنه يسوغ دخول (ال) على (غير) للتعريف أو غيره؛ ولكن المشكلة في تعريفها مضافة، إذ أنكر هذا ابن هشام اللخمي (577هـ) قال «ويقولون: في الزُّقاقِ (الغَيْرِ) نافِذٍ، فيدخلون الألف واللام على (غَيْر)، وهو غيرُ جائزٍ. وإنَّما الصوابُ: في زُقاقٍ غَيْرِ نافِذٍ، أو في الزُّقاق الذي هو غيرُ نافِذٍ. لأنَّ (غَيْر) عند الْمُحَقِّقينَ لا تدخلُ عليه آلةُ التعريفِ، لأنَّ المقصودَ في إدْخالِ آلةَ التعريف على الاسمِ النكرةِ أنْ تُخَصِّصَه لشخصٍ بعينِهِ. وإذا قيل: (الغَيْرُ)، اشتملت هذِهِ اللفظةُ على ما لا يُحصى كَثْرَةً، ولم يتعرَّفْ بآلةِ التعريفِ، كما أنَّه لا يتعرَّفُ بالإِضافةِ، فلم يكنْ لِإدخالِ آلةِ التعريف عليه فائِدةٌ»(19)، وابن هشام التفت إلى الدلالة وأهمل التركيب وهو أهم، إذ يلاحظ أن المثال المرفوض عرف المضاف وترك المضاف إليه، والقاعدة تعريف المضاف إليه، فلا مساغ لإدخال (ال) على (غير) مضافًا إلى نكرة.
أما إن كان مضافًا إلى معرفة فمستعمل، استعملته بعض كتب النحو، قال أبو الفداء «ذكر إعراب الاسم الغير المنصرف»(20)، و»لجواز الإخبار عن المصدر الغير العامل»(21)، وقد تكرر كثيرًا في (الكناش)، وقال الجوجري (889ه) «ويترجح على الإبدال في التام الغير الموجب»(22). فإن كان مشارًا إليه فدخول (ال) واجب، نحو «عليك أن تنجز العمل المهم وأما هذا الغير المهم فلك تأخيره».
ننتهي من ذلك إلى أن الاسم (غيرًا) الأصل فيه أن يكون مضافًا غرضه نفي ما أضيف إليه، وهو لهذا أقرب في دلالته إلى الحروف؛ ولكنه لم يبن بناءها لسمات الاسم الغالبة عليه، فاستعمل في وظائف الاسم المختلفة المبتدأ والخبر والفاعل والمفعول به والحال والمضاف إليه، ولفظه هو المتحمل للأثر الإعرابي لفظًا أما الدلالة على الوظيفة فهي للمركب الإضافي من (غير) وما أضيف إليه. و(غير) الاستثنائية أقرب أحواله من الحرفية؛ لأنه بمعنى (إلّا)، ولا يسوغ دخول (ال) عليه مضافًا، أما دخولها عليه إن كان مضافًا إلى معرف بـ(ال) فهو غير سائغ وإن ورد استعماله قليلًا ما لم يكن مشارًا إليه؛ إذ اسم الإشارة يقتضي مشارًا إليه محلّى بـ(ال)، واستعمل (غير) مفردًا توسّعًا فلا يكون نافيًا بل بمعنى (مختلف أو آخر أو ضدّ) وساغ بهذا دخول (ال) عليه، وساغ النسب إليه (غيريّ) ضد (ذاتيّ).
**__**__**__**__**__**
(1) التبيين عن مذاهب النحويين للعكبري؛ أبو البقاء عبد الله بن الحسين، تحقيق: عبد الرحمن العثيمين، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1406هـ - 1986م، ص: 417.
(2) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح، الدار العلمية - الهند، 2/ 6.
(3) التعليقة على كتاب سيبويه للفارسي؛ أبو عليّ الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، تحقيق: عوض بن حمد القوزي، ط1، 1410هـ - 1990م، 2/ 71.
(4) رسائل في اللغة (رسائل ابن السيد البطليوسي)، ص353.
(5) إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث للعكبري؛ أبو البقاء عبد الله بن الحسين، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع/ القاهرة، ط1، 1420هـ - 1999م، ص125.
(6) أمالي ابن الحاجب لابن الحاجب؛ أبو عمرو جمال الدين عثمان بن عمر، تحقيق: فخر صالح سليمان قدارة، دار عمار - الأردن، دار الجيل – بيروت، 1409هـ - 1989م، 1/ 405.
(7) الكناش في فني النحو والصرف لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي الملك المؤيد، تحقيق: رياض بن حسن الخوام، المكتبة العصرية للطباعة والنشر/ بيروت، 2000م، 1/ 263.
(8) المسائل الحلبيات للفارسي؛ أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، تحقيق: حسن هنداوي، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع/ دمشق، ودار المنارة للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت، ط1، 1407هـ - 1987م، ص: 185.
(9) نتائج الفكر في النحو للسهيلي؛ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله، جامعة قاريونس/ بنغازي، 1398ه-1978م، ص55.
(10) التبيين عن مذاهب النحويين للعكبري، ص: 326.
(11) شرح ألفية ابن مالك(المقاصد الشافية) للشاطبي؛ أبو إسحق إبراهيم بن موسى، تحقيق: عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، جامعة أم القرى/ مكة المكرمة، ط1، 1428 هـ - 2007 م. 1/ 45.
(12) شرح ألفية ابن مالك(المقاصد الشافية) للشاطبي، 1/ 258.
(13) تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد لناظر الجيش؛ محمد بن يوسف بن أحمد، تحقيق: علي محمد فاخر وآخرون، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة/ القاهرة، ط1، 1428هـ، 5/ 2378.
(14) الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري؛ الحسن بن عبد الله بن سهل، تحقيق: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1418ه-1998م، ص: 153-154.
(15) درة الغواص في أوهام الخواص للحريري؛ القاسم بن علي، تحقيق: عرفات مطرجي، مؤسسة الكتب الثقافية/بيروت، ط1، 1418ه/1998م، ص51.
(16) صدر بيت لمنظور بن مرثد الأسدي، وعجزه (فارَةَ مِسْكٍ ذُبحَت في سُكّ).
(17) شرح درة الغواص في أوهام الخواص، للشهاب الخفاجي؛ أحمد بن محمد، تحقيق: عبد الحفيظ فرغلي علي قرني دار الجيل/ بيروت، ط1، 1417هـ - 1996م، ص199.
(18) معجم الصواب اللغوي لعمر؛ أحمد مختار، عالم الكتب/ القاهرة، ط1، 1429هـ - 2008م، 1/ 150.
(19) المدخل إلى تقويم اللسان لابن هشام اللخمي، تحقيق: حاتم صالح الضامن، دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع/ بيروت، ط1، 1424هـ - 2003م، ص439.
(20) الكناش في فني النحو والصرف لأبي الفداء، 1/ 119، 281.
(21) الكناش في فني النحو والصرف لأبي الفداء الملك المؤيد، 1/268
(22) شرح شذور الذهب للجوجري، 2/ 486.