أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
نقل ابن هشام المعافري (ت 213هـ) في كتاب السيرة عن محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (ت 151هـ) في المغازي -وتسمّى سيرة ابن إسحاق- وثيقةً تاريخية عُرفت فيما بعد بـ(وثيقة المدينة) أو (صحيفة المدينة) أو (الوثيقة النبوية)، وهي كتابٌ أمر به نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليصنع حِلفًا اجتماعيًّا مترابطًا بين المهاجِرين والأنصار، وليكون موادعةً ومعاهدة بين المسلمين واليهود في المدينة في ذلك الوقت. وجاءت الوثيقة من طرق مختلفة ونقلتها مصادر عديدة، أقدمها كتاب المغازي أو السيرة لابن إسحاق، وهي طويلة، فلن أنقل نصها في هذه العجالة، وحسب القارئ الكريم أن يرجع إليها في مصادرها ومنها السيرة لابن هشام (ص 1/ 502 تحقيق مصطفى السقا، و106 تحقيق طه عبدالرؤوف أسعد) أو أي مصدر نقلها، مما سأشير إليه فيما يأتي.
ورأيت مَنْ يشكّك في هذه الوثيقة التاريخية ويشكّك في مصادرها؛ لأنها تخالف هواه وتنقض عُرى ما بناه، والهوى آفة البحث العلمي وعدوّ الأمانة والموضوعية، وما أكثر أصحاب الأهواء المتطفّلين على البحث العلمي، وما أقلّ بركتهم، يدّعون الحياد والموضوعية وهم أبعد الناس من ذلك. وربما احتجّ المشكّك بأن الألباني ضعّف الوثيقة بناء على اجتهاده -رحمه الله- في نقد إسنادها؛ وكأنّه لا يعلم أن كثيرًا مما جاء في السيرة وتاريخ النبوّة والخلفاء الراشدين لا إسناد له أو في إسناده مواضع نقد، ولو كان هذا منهجه في مرويات التاريخ لقلنا إنه أمين شديد التحرّز ولكننا نراه يقبل الروايات التاريخية المنسوبة للهمداني، الذي وصفه الشيخ حمد الجاسر بأنه متعصب لبلده وقومه، واتهمه أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري بالكذب، ولو طبّقنا منهج المحدّثين في السند والجرح والتعديل على هذا الكتاب بل على المرويات التاريخية الواردة في كتب السيرة وكتب التاريخ والأنساب بعامّة لرُدّ أكثر ما فيها، فما الذي يصحّ مما في كتاب الإكليل المنسوب للهمداني لو عرضت نصوصه ومروياته على منهج المحدّثين؟ لن يصح منه شيء ذو قيمة وحتى عنوانه لا يصح، فهو مختصر الإكليل لمحمد بن نشوان الحميري، طبعه ناشره باسم الإكليل للهمداني، وحقه أن يكون مختصر الإكليل لمحمد بن نشوان الحميري (ت 610هـ) وما أحراه أن يسميه: (بَيْض الإجفيل في اختصار الإكليل)، على قياس كتابه (ضياء الحلوم في اختصار شمس العلوم)، وهو مختصر لشمس العلوم، كتاب والدِهِ نشوان بن سعيد الحميري.
وهل يُدرك المشكّك في الوثيقة المقلّل من شأن رواتها ومصادرها أنّ السيرة إنما دُوّنت بما هي عليه اليوم من تلك المصادر؟ ثم ألا يعلم أنّ منهج المحدّثين في التشدّد في معايير الرواية والسند إنما يلزم في العقائد والحلال والحرام من الأحكام دون الأخبار والقَصص والفضائل التي يقع فيها التساهل؟ مع ملاحظة التفريق بين ما يرد في أخبار السيرة مما يتعلّق به حكم شرعي أو يتضمن أحكاما فقهية، وهي مواضع متفرقة من الوثيقة وردت في كتاب الحديث الستة وصحّ سندها.
وفي أبواب التساهل قال الإمام أحمد بن حنبل: «إذا روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحلال والحرام والسنن والأحكام، تشدّدنا في الأسانيد، وإذا روينا عنه في فضائل الأعمال وما لا يضع حكما ولا يرفعه، تساهلنا في الأسانيد». (نقله الخطيب في «الكفاية» ص134).
وقال ابن رجب في شرح علل الترمذي: «وقد ذهب عامّة أهل العلم إلى التساهل والتخفيف في مرويات السيرة، والقصص، وأقوال الصحابة والتابعين، التي لا ينبني عليها عقيدة أو شريعة». (شرح علل الترمذي 1/ 372).
وقال ابن عبدالبرّ: «وأهل العلم ما زالوا يُسامحون أنفسهم في رواية الرغائب والفضائل عن كلِّ أحد، وإنما كانوا يتشدَّدون في أحاديث الأحكام» (التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 1/ 127).
وقال السخاوي: «وهذا التّساهل والتّشديد منقولٌ عن ابن مَهْدِيّ عبدالرّحمن، وغير واحد من الأئمّة؛ كأحمد بن حنبل، وابن مَعِين، وابن المبارك، والسُّفْيَانَيْن، بحيث عقدَ أبو أحمد بن عَدِيّ في مُقدِّمة كامِلِه، والخطيب في كفايتِه، لذلك بابًا. وقال ابن عبدالبَرِّ: أحاديثُ الفَضائل لا يُحتاجُ فيها إلى مَنْ يُحتجُّ به». (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث 1/ 349).
وقال همام عبد الرحيم: إنّها «معاناة يشعر بها دارس السيرة النبوية ومُدرّسها عندما يرواح بين منهجين: منهج المؤرّخين ورُواة السير، ومنهج المحدّثين، فقد عُرف عن المؤرخين وأصحاب السير التساهل في الرواية.... بينما اتّبع المحدِّثون منهج النقد الذي يُميّز الرِّوايات الصحيحة من غيرها» (ينظر: صحيح السيرة النبوية للعلي ص 7).
ومن هنا كان ابن شهاب الزهري وابن إسحاق وابن هشام حجة في السيرة النبويّة عند أهل العلم، مع أنهم لم يلتزموا الإسناد في كل أخبار السيرة، بل كان همُّهم جمعَ أطراف الأخبار في الحَدَث الواحد وسوقها في كلّيّاتها وجزئياتها مساقًا واحدًا، فجاءت قصّة متكاملة شاملة، وكتب الله لها القبول والانتشار.
ونعود إلى الوثيقة، فأقول: إنها ثابتة بالرواية والتأصيل عن العلماء الثقات، ومن أبرز مصادرها:
1- المغازي أو سيرة ابن إسحاق المطّلبي (ت 151هـ).
2- سيرة ابن هشام المعافري (ت 213هـ).
3- كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ).
4- كتاب الأموال لحُميد بن زنجويه (ت 247هـ).
5- السنن الكبرى للبيهقي (ت 458هـ).
6- الروض الأنف للسهيلي (ت 581هـ).
7- الإملاء المختصر في شرح غريب السير، لابن أبي الركب الخشنى الجيّاني (ت 604هـ).
8- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيميّة (ت 728هـ).
9- نهاية الأرب، للنويري (ت733هـ).
10- عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس اليعمري الربعي (ت 734هـ).
11- المهذّب في اختصار السنن الكبرى، للذهبي (ت 748هـ).
12- البداية والنهاية، لابن كثير القرشي الدمشقي (ت 774هـ).
13- المصباح المضيء في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي، لجمال الدين بن حديدة، محمد بن علي الأنصاري (ت 783هـ).
14- البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير، لابن الملقّن الشافعي (ت 804هـ)
15- التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ).
16- بهجة المحافل وبغية الأماثل في تلخيص المعجزات والسير والشمائل، ليحيى بن أبى بكر العامري الحرضي (ت 893هـ).
17- السيل الجرّار، للشوكاني (ت 1250هـ).
18- صحيح السيرة النبوية، لإبراهيم بن محمد بن حسين العلي الشبلي (ت 1425هـ).
19- الرحيق المختوم، لصفي الرحمن المباركفوري (ت 1427هـ).
وممن ناقش صحة الوثيقة صالح العلي في كتابه (تنظيمات الرسول الإدارية في المدينة ص 4 وما بعدها) وأكرم ضياء العُمري في كتابيه (المجتمع المدني في عهد النبوة ص 107 وما بعدها)، و(السيرة النبوية الصحيحة 1/ 272 وما بعدها)، وإبراهيم بن محمد العلي الشبلي في كتابه (صحيح السيرة النبوية ص 140 وما بعدها). وإياد الطباع في بحثه (صحيفة المدينة المنورة النص والتوثيق: دراسة في الحديث النبوي) ولعل أحسن من تناولها أكرم ضياء العمري الذي فاز بجائزة الملك فيصل، وانتهى إلى إثبات الوثيقة في الجملة وقبولها، وقال في دراسته: «الراجح أنّ الوثيقة في الأصل وثيقتان، ثم جمع المؤرخون بينهما، إحداهما تتناول موادعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لليهود، والثانية توضّح التزامات المسلمين من مهاجرين وأنصار وحقوقهم وواجباتهم». وقال: «يترجّح عندي أن وثيقة مواعدة اليهود كتبت قبل موقعة بدر الكبرى، أما الوثيقة بين المهاجرين والأنصار فكتبت بعد بدر، فقد صرّحت المصادر بأنّ موادعة اليهود تمّت أوّل قدومٍ للرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة». (السيرة النبوية الصحيحة 1/ 225، 276)
ولكي لا يطول الحديث فإني أكتفي بخلاصة ما انتهى إليه الباحثون صالح العلي وأكرم العُمري وإبراهيم العلي الشبلي وإياد الطبّاع، في قبولها وتوثيقها، وأختصرها في النقاط الآتية:
1- أنها وردت من طرق كثيرة، تتضافر في إكسابها القوة، ومن رواتها ابن شهاب الزهري (ت 125هـ)، وهو عَلَم من روّاد كُتّاب السيرة، يعدّ من أوثق أهل العلم والرواية (صحيفة المدينة لإياد الطبّاع 154)، ورويت عن ستّة من الصحابة وخمسة من التابعين وتابعي التابعين.
2- أن المحالفة بين المهاجرين والأنصار ثابتة، وكتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وكذلك موادعة اليهود، وكتاب الرسول في ذلك.
3- وأنّ نصوصًا ومقتطفات من الوثيقة تغطّي عددًا من بنودها وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أورده البخاري أو مسلم وورد بعضها في مسند أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة والترمذي واحتج بها الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم الفقهية.
4- وأنّ الوثيقة تصلح أساسًا للدراسة التاريخية ومنها الوقائع وأسماء القبائل والرجال.
5- وأن أسلوب الوثيقة يدلّ على أصالتها، وينم على مألوف أساليب العصر المدني، وكذلك استخدام الجمل نفسها مع أساليب كتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأخرى يعطيها قوة ويكسبها الثقة، ويمكن القول: إنّها وثيقة أصلية غير مزوّرة، كما يقول أكرم العُمري. (السيرة النبوية الصحيحة 1/ 276)
6- أن التشكيك بعد ذلك يعد مجازفة كبرى، وتسرّعا في إصدار الأحكام، ومجافاة للأسلوب العلمي فضلا عن مخالفة الواقع (صحيفة المدينة لإياد الطباع 156).
وأضيف إلى ما سبق أن هذه الوثيقة مقبولة عند عامّة علماء الأمّة ومؤرّخيها المتقدّمين والمتأخّرين، وبها اقتدى أكثر من 1200 عالم و27 مكوّنًا إسلاميًّا، وشاركهم أكثر من 4500 مفكر إسلامي، في مؤتمر وثيقة مكة المكرمة الذي عقد بمكة في 22- 24 رمضان 1440هـ، برعاية كريمة من الملك سلمان بن عبدالعزيز، -حفظه الله-، وأعدّ العلماء (وثيقة مكة المكرمة)، وجاء فيها ما نصّه: إنّ وثيقة مكة المكرّمة «استلهمت مبادئها وغاياتها من الوثيقة التاريخية التي أمضاها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- مع التنوع الديني في المدينة المنورة قبل 1400 عام، وهي التي أسست للتعايش في المجتمع المدني بعد أن أصبح المسلمون مكوّنًا جديدًا فيه» وعدّوها الوثيقة الثانية من هذا النوع بعد وثيقة المدينة المنورة.
وينبغي لمن يبحث في التاريخ والأنساب والوثائق أن يلتزم الأمانة ويتحرّى الموضوعية والإنصاف فيما يكتب، وألّا يسوقه الهوى إلى الطعن في شيء من أصول تاريخنا أو التشكيك في مصادر مهمة ككتاب السيرة لابن هشام، الذي هذّب سيرة ابن إسحاق، ويعدّ من أوثق المصادر التي تناولت سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام وتاريخ مدينته وصحابته، وذكرت القبائل التي ناصرته.