د. عبدالحق عزوزي
إذا كان المستقبل لا يمكن التنبؤ به، فإننا على يقين من أنه يمكن التأثير فيه وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. فرؤيتنا الشخصية يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة الحالية، وتقويما مسبقا لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن حلولا جذرية لمشكلات البلدان والعباد؛ كما يجب أن تكون شاملة في نطاق رؤيتها ومحددة في حقل تنفيذها. فالاستراتيجية تُعنى بالمستقبل وتحليل المشكلات وتجنبها، وهي تؤدي هذه المهمة من خلال تقويم دقيق للبيئة الاستراتيجية لتحديد وانتقاء العوامل الاستراتيجية الأساسية، التي يجب أن تعالج لخدمة مصالح الدولة بنجاح.
ومن هنا بعض التوجيهات الجادة التي يمكن أن يجود بها ذوو العقول النيرة في أوطاننا العربية، على غرار تجديد آليات الخطاب الإعلامي ووظائفه، وتأهيل الكفاءات الإعلامية تأهيلاً يتوافق مَعَ الثورة الإعلامية الجديدة القائمة على استثمار الفضاء التكنولوجي ووسائط التواصل، ليضطلع بدوره التنويري الجديد لمواجهة الخطاب الظلامي المتزمت، وتفعيل القوانين والتشريعات التي تجرِّم الكراهية والعنصرية، وبثّ الفُرقة والنزاع بين الفئات المجتمعية ذات الصبغة التعدُّدية قوميًا وإثنيًا وطائفيًا.
ونظرًا لما يشكّله الدين من أهميّة تراثية وفكريّة ووجدانيّة في حياة الإنسان المسلم، فإنَّ تجديد خطابه وتأهيل الدّعاة يغدو ضرورة، لإبراز وسطيّته واعتداله وإشراك فاعلين جدد قد يعتبرون (قادة الإنترنت) يعملون عبر شبكات التواصل الاجتماعي، لدعم عمل الأئمة في المساجد ومن يحظون بالشرعية الدينية والمصداقية. كما يجب المناداة بضرورة القيام بحملة للتوعية والتأطير الديني في الوسط السجني الذي يشكل حقلاً خصبًا لانتشار الإيديولوجيات المتطرفة.
وأظن أن جل المطالب في يومنا المعاصر تلتقي عند وجوب إعادة هيكلة المؤسسات ذات الاختصاص الديني في أوطاننا العربية، من قبيل التفكير في كل المؤسسات المعنية بالأمر، وضرورة مواجهة بعض الدعوات كالنزعات الجهادية بمختلف أنواعها، وضرورة الحفاظ على التوازن الروحي المتفتح الذي طبع تاريخنا على مدى أزمنة عديدة.
لذلك فكل الدول مطالبة بإعادة هيكلة المؤسسات الدينية، وإعادة الاعتبار للتفكير العمومي كقاطرة لتدبير قضايا التحديث بالبلدان، وذلك بمراجعة العديد من القوانين والتشريعات المنظمة لهذا المجال لأن تحصين الشأن الديني وتدبيره يعتبر من الدعامات المؤسسة للهويات الوطنية، وهو ما يلزم الدول برسم استراتيجيات دينية وفق منظور شامل يعتمد على القرآن والسنة.
ولقد عانت بعض الدول العربية في العقود الماضية من موجات متكررة من الإرهاب الغاشم قادتها تنظيمات جهادية؛ ولن تهدأ نفوس العقول النيرة في الوطن العربي والإسلامي حتى نقضي على مسببات نشأة هاته الفئات الضالة التي تتخذ من الدين الإسلامي جسرا تعبر به نحو أهدافها الشخصية، وتصم بفكرها الضال سماحة الإسلام ومنهجه القويم الغلو والتطرف وما ينتج عن ذلك من الإرهاب، وهذا يتطلب منا جميعا أن نتكاتف لمنع ولادتها فهي ليست من الإسلام في شيء، وأقول هذا الكلام لأنه على المعلمين والمربين في مدارسهم أن يهيئوا أبناءهم الطلبة لخوض حياة تقبل الآخر؛ تحاوره وتناقشه وتجادله بالتي هي أحسن، فالمنهج المدرسي بيئة مناسبة لتعويد الطالب على التحاور، وتعويده على أن الخلاف مهما كان يُحَل بالنقاش والحوار، وتدريبه على الأسس الشرعية التي دعا إليها ديننا في تلقي الآخر. وهنا نستحضر عظم الرسالة الملقاة على عاتق الأم، فالأم المدرسة الأولى التي يعي منها الأبناء منذ صغرهم ما لا يعونه من الآخرين؛ فإن أحسنت الرعاية أينع غرسها وأثمر، بل ينبغي لكل من استُرعي أحدا من أبنائنا أن يغرس في نفوسهم أن الدين الإسلامي دين محبة وتحاور وتعايش لا دين نبذ وبغض، وقد أعطانا المصطفى صلى الله عليه وسلم وصفة إسلامية في الحياة حين قال: (والذي نفس محمد بيده لا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم.. أفشوا السلام بينكم).
إن الغلو والتطرف وما نتج عنهما من الإرهاب في السنين الماضية في بعض من الدول العربية يتطلب منا جميعا أن نتكاتف لكيلا يرجع وأن نقوم بحماية أبنائنا من الانزلاق في مسارب الأفكار المتطرفة والانتماءات الخاصة على حساب الأخوة الإسلامية..... وكل هذا يصب في مستقبل العقول التي ستبني دولنا بعد عقود من الآن والتي عليها المعتمد في تحقيق البناء الهادف لأوطاننا وضرورة خلوها من فيروسات الغلو والإرهاب حتى نبني الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك.