د. غالب محمد طه
ماذا يعني أن تكون جزءًا من نسيج متنوع؟ سؤال يتردد في ذهن كل من عاش تجربة المغترب أو المقيم في بلد آخر، إن التعايش في مجتمع متنوع ليس مجرد تفاصيل يومية، بل هو رحلة إنسانية تتطلب تأملاً عميقًا في التحديات والفرص التي يقدمها الاندماج.
كونك جزءًا من مجتمع جديد يعني مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية، ومحاولة إيجاد مكان لك في وسط متغير.
المملكة العربية السعودية بخطواتها الحديثة باتت تجيب عن هذا التساؤل بتبنيها نهجًا جديدًا أعاد تعريف الاندماج والتواصل الثقافي عبر مبادرات رائدة، أبرزها مبادرة «انسجام عالمي»، هذه المبادرة، التي تأتي ضمن برنامج «جودة الحياة»، تمثل تحولًا في كيفية النظر إلى التنوع، حيث يُعتبر فرصة لإثراء المجتمع بدلاً من كونه عائقًا أمام الانسجام.
مبادرة «انسجام عالمي» أُطلقت من قبل وزارة الإعلام، وتهدف إلى إبراز القيمة التي يجلبها المقيمون في الحياة الاجتماعية والثقافية. إن الاحتفاء بالمقيمين في هذه الفعالية ليس مجرد تكريم لمساهماتهم، بل خطوة ذكية لتعزيز التواصل بين المجتمع السعودي والجنسيات المختلفة. تُظهر المبادرة تجارب المقيمين، بما في ذلك حياتهم العائلية والمهنية، مما يُبرز أهمية التكامل والاندماج وكيف يمكن للتنوع الثقافي أن يكون مصدرًا للإثراء والتنمية.
تتزامن هذه المبادرة مع موسم الرياض، وهي ليست مجرد احتفال بالثقافات، بل هي دعوة مفتوحة للتواصل الإنساني العميق. عندما يتم استعراض قصص النجاح وتجارب الحياة المتنوعة للمقيمين، فإن ذلك يحمل رسالة ضمنية: أن التنوع الثقافي ليس فقط ثراءً مظهريًا بل نسيجًا ضروريًا لفهم أوسع وأعمق للحياة. الفعاليات، التي تشمل الموسيقى، الحرف اليدوية، والأطعمة الشعبية، لا تقتصر على جذب الزوار للترفيه، بل تكسر الحواجز النفسية والثقافية التي قد تفصل بين الناس، مما يقود بالتالي إلى لحظات مشتركة تُشكل فيها الهوية مساحة ديناميكية تتشكل عبر التفاعل المستمر.
تكتسب هذه المبادرات أهمية خاصة على المستوى العربي والإسلامي، حيث تعزز من فهم الآخر وتقوّي من لحمة المجتمعات التي تتشارك في هوية ثقافية وتاريخية واحدة. إن تشجيع التواصل بين المواطنين والمقيمين من دول عربية وإسلامية مختلفة يسهم في ترسيخ القيم المشتركة ويدفع نحو مزيد من التماسك والتكامل بين الشعوب.
مع مواجهة تحديات كبرى من الانقسامات الثقافية والجغرافية، تصبح هذه الأنشطة جسرًا لإعادة تشكيل الوعي الجمعي حول أهمية التعاون الإقليمي لتحقيق التقدم والازدهار. الفعالية تستضيف ثقافات من دول متعددة مثل الهند، السودان، اليمن، ومصر، مما يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول أهمية إدراك التشابهات رغم التباينات الظاهرة؟ هذه التعددية ليست مجرد تنويع في العادات والأطعمة، بل فرصة لاختبار كيف يمكن للتنوع أن يُعيد تشكيل الهوية الجماعية بطريقة تدمج بين الماضي والمستقبل، الفرد والجماعة.
تعكس المبادرة أيضًا تحولًا في مفهوم جودة الحياة، فالأمر لم يعد مقتصرًا على توفير الخدمات الأساسية والترفيه، بل أصبح يشمل القدرة على خلق مساحات للقاء والتفاعل بين مكونات المجتمع المختلفة، هنا، تتجلى قيمة التنوع بوصفه موردًا معنويًا يغذي روح الجماعة، مما يمكنها من التعامل مع التحديات المستقبلية بنظرة أكثر تفاؤلًا وشمولًا.
تعكس المبادرة أيضًا تحولًا في مفهوم جودة الحياة، فالأمر لم يعد مقتصرًا على توفير الخدمات الأساسية والترفيه، بل أصبح يشمل القدرة على خلق مساحات للقاء والتفاعل بين مكونات المجتمع المختلفة. هنا، تتجلى قيمة التنوع بوصفه موردًا معنويًا يغذي روح الجماعة، مما يمكنها من التعامل مع التحديات المستقبلية بنظرة أكثر تفاؤلًا وشمولًا.
في خضم هذا المشهد، يبرز دور المقيم ليس فقط كفرد يعيش على أرض المملكة، بل كشريك في صياغة سردية جديدة عن التعايش. المقيمون والمواطنون معًا يسهمون في بناء نموذج فريد من التعددية المتناغمة، حيث يصبح التواصل الإنساني أساسًا لرؤية مشتركة تتجاوز الانتماءات الضيقة. هذه اللحظة، التي تتشابك فيها الهويات المختلفة، تقدم درسًا مهمًا: الانتماء لا يتحدد بالموقع الجغرافي أو الجنسيات، بل يُبنى من خلال الاعتراف بالآخر والاحتفاء به.
السؤال الذي يطرحه هذا الحدث بشكل غير مباشر هو: كيف يمكننا تحويل التعددية من واقع نعيشه إلى قيمة نحتفي بها؟
هذا النموذج من الانسجام يتجاوز كونه احتفالًا مؤقتًا، إذ يمكن النظر إليه كتمرين اجتماعي يمهد لبناء مجتمع أكثر تماسكًا، فعندما يُقدّر المقيمون على مساهماتهم الثقافية والاجتماعية، تنفتح مسارات جديدة للتفاهم بين المواطنين والمقيمين ويصبح عندها الانتماء ليس مجرد شعور يُفرض من الخارج، بل تجربة نابعة من التفاعل اليومي والاعتراف المتبادل بالقيمة التي يحملها كل فرد.
في ختام الأمر، ليست «انسجام عالمي» مجرد فعالية ثقافية، بل هي دعوة لرؤية جديدة تُعيد تعريف التنوع بوصفه مصدر قوة وإلهام. إنها بداية رحلة طويلة نحو مجتمع يحتفي بالاختلافات، ويجعلها ركيزة للتقدم والابتكار. هذه المبادرات تفتح آفاقًا جديدة لبناء مستقبل يتجاوز الحواجز والحدود، حيث يتشارك الجميع (مواطنين ومقيمين) في صياغة عالم يقوم على الاحترام المتبادل، ويؤمن بأن الانسجام الحقيقي ينبع من الاحتفاء بما يجعلنا مختلفين.
أود أن أعرب عن امتناني لوزارة الإعلام السعودية على إطلاقها مبادرة «تعزيز التواصل مع المقيمين»، التي أراها نافذة مشرعة على آفاق عالمية، تنبض بروح برنامج «جودة الحياة»، وتنسجم مع طموحات رؤية المملكة 2030 في صياغة مجتمع يحتفي بالتنوع ويتقدم نحو التكامل والازدهار.