د.عبدالله بن موسى الطاير
تلعب الهوية دوراً محورياً في تشكيل مصير الدول، سواء في بنائها وتقويتها أو في سقوطها. وتتجلى الهوية في مجموعة من العوامل المشتركة التي تجمع أفراد المجتمع، مثل اللغة، الدين، الثقافة، التاريخ، والقيم المشتركة، وعندما يشترك أفراد المجتمع في هوية قوية، يتولد لديهم شعور بالانتماء والولاء للمجتمع والدولة، وهذا الشعور المشترك يدفعهم للعمل معاً من أجل تحقيق الأهداف المشتركة وبناء دولة قوية، فضلاً عن أن الهوية المشتركة تسهم في تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي وتقليل احتمال نشوب الصراعات الداخلية والخلافات التي قد تهدد استقرار الدولة. الهوية تحفّز المواطنين على المشاركة في عملية التنمية والمساهمة في بناء اقتصاد قوي ومجتمع مزدهر، بعيداً عن الانخراط في صراعات مهددة للأمن والاستقرار والتنمية.
وإذا أخذنا على سبيل المثال الدولة السعودية الأولى سنلاحظ أن الهوية الإسلامية لعبت دوراً حاسماً في توحيد القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية، حيث شكلت العقيدة الإسلامية الجامعة رابطاً قوياً بين مختلف القبائل، بينما تجتمع كافة مكونات المملكة العربية السعودية بتنوعها الثقافي والقبلي والمذهبي تحت هوية وطنية تشكلت ملامحها منذ توحيدها وهي أشد وضوحاً ونضجاً في هذا العصر. إلى الشمال الغربي من شبه الجزيرة العربية، وفي القرن التاسع عشر، لعبت الهوية القومية دوراً محورياً في توحيد كل من ألمانيا وإيطاليا، حيث تمكنت هذه الدول من توحيد الإمارات والولايات المتفرقة تحت راية هوية قومية واحدة. كما تعد الهند مثالاً لدولة ناجحة في إدارة التنوع الهوياتي، حيث تتعايش فيها ديانات وثقافات ولغات مختلفة بسلام وتناغم، وليس ببعيد عنها كندا التي تقدم نموذجاً يحتذى به في بناء مجتمع متعدد الثقافات، حيث يتمتع جميع المواطنين بحقوق متساوية بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية.
لقد كانت الهوية الجماعية، قوة مؤثرة في توحيد الناس والأمم عبر التاريخ، ولا تزال كذلك حتى اليوم. إنه جانب أساسي من تجربتنا الإنسانية، فهو يشكل إحساسنا بالذات، والانتماء، والغرض من تكتلاتنا. إن الهوية المشتركة، سواء كانت مبنية على العرق أو الدين أو اللغة أو الثقافة أو القيم، تعزز الشعور بالانتماء للمجتمع والتضامن والهدف المشترك. الشعور بالانتماء يقوّي الروابط الاجتماعية، ويعزز التعاون، ويمكّن من العمل الجماعي لتحقيق الأهداف المشتركة. لقد أوجد الاتحاد السوفيتي أيديولوجيا ظن أنها جامعة للهويات الروسية المتنوعة حد التنافر، وفي نهاية المطاف اضطلعت الهويات القومية المختلفة بدور حاسم في تفككه؛ حيث سعت الجمهوريات السوفيتية لاستعادة هوياتها القومية والاستقلال عن موسكو. كما أن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية خلقت عقيدة جديدة هي الليبرالية الديموقراطية تدين بها مجموعة الدول الأكثر تقدماً صناعياً، والغرب في عمومه، في تكتل هوياتي هو الأقوى والأكثر تأثيراً وسيطرة على النظام العالمي الحالي. داخل الليبرالية الديموقراطية تشكل طيف من التنوع بين معتدل ومتطرف، وأشده التفرعات تماسكاً، ودعماً سياسياً يتمثل في مجتمع الميم (الشواذ) الذي بدأ يبسط سطوته.
وفي حين أن الهوية لديها القدرة على توحيد وتعزيز الشعوب والأمم، فمن الضروري التعامل معها بعناية ودقة. ومن الأهمية بمكان تعزيز الهويات الشاملة التي تحتفي بالتنوع وتعزز التفاهم مع الوقاية من مخاطر الاستبعاد والتعصب، اللذين يحولان دون بناء مجتمعات وأمم أقوى وأكثر مرونة، وعالم أكثر انسجاماً. وأخذاً في الاعتبار دور الهويات في تشكيل الدول والأمم، فإنه عندما تتعارض الهويات الفرعية داخل المجتمع الواحد، ينتج عنها صراعات داخلية تهدد وحدة الدولة وتؤدي في النهاية إلى تفككها، ومما يغذي هذه النزهة استغلال الهوية من قبل جماعات متطرفة لتحقيق أهداف سياسية أو دينية، لزعزعة الاستقرار ونشر الفوضى، وأعتقد أن الصحوة والإسلام السياسي بعمومه لعبا هذا الدور عندما حاولا التمكين لهوية فرعية، وفرضها على بقية مكونات الهوية الجامعة في الدول الإسلامية، كما يؤدي اليمين المتطرف في الغرب الدور ذاته.
لا ريب أن التطرف الهوياتي، الذي يقوم على نزعة الاستغناء والإقصاء والانبتات عن الهوية الجامعة يؤسس لانقسامات عميقة ويضعف النسيج الاجتماعي، ويقوّض قدرة أي دولة على مواجهة التحديات بمكوناتها مجتمعة. يجدر في هذا السياق أن نذكر الثنائية الأمريكية المتمثلة في أيديولوجيتين متقابلتين ليبرالية ومحافظة، تحاول كل منهما إقصاء الأخرى تحت مظلة الديموقراطية. وبسبب عمق الخلاف فإن الديموقراطية الجامعة تواجه تحديات صعبة واتهامات تصل بها إلى مستوى رداءة ديموقراطيات العالم الثالث وفسادها.