الثقافية - أحمد الجروان:
سجلت الرواية التاريخية حضورًا متواضعًا على الساحة الثقافية، وقد يكون سبب ابتعاد المبدعين عنها هو صعوبة الموضوع، ووعورة طريقه، فالكتابة التاريخية تتطلب معرفة تامة بالتاريخ، واطلاعاً واسعاً على المواضع والأماكن، والقدرة على الربط بين هذه الأطراف، والخيال الذي ينبغي أن يكون حضوره بمعيار مقنن، وإذا تطابقت هذه المعايير الثلاثة مع جودة الصياغة السردية خرج العمل بأبهى حلة.
تطالعنا اليوم رواية: «ضُبَاعَةُ العَامِريَّة»، لمؤلفها الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل، رائد تحقيق الشعر العربي، التي برزت فيها بطلة الرواية ضُبَاعَةُ العَامِريَّة كمحركة رئيس للأحداث في مراحل الرواية المختلفة، ففي حقبة الطفولة وهي المؤشر الدقيق للوقوف على تفاصيل الحياة آنذاك ومنها أسعار السلع عندما أظهرت مهارتها في بيع الحصاة، ووفرت على أمها نقودها، وفي مرحلة الانتقال من الطفولة إلى الشباب أغرت بجمالها رواد الأسواق، مما دعا الجواري إلى نقل جمال هذه الفتاة ونشر أخبارها حتى وصلت إلى مجالس الملوك وإلى رجال المال الذين يشترون شهرتهم بأموالهم، وفي مرحلة الزواجات التفت الأحداث حول الزوجة، يبرز ذلك في مظاهر الاحتفالات وتنويع ألوان المراكب وتميز هودج العروس بألوان مختلفة، والمحرك الأهم هو تسليط الضوء على البطلة العروس بنشر الدنانير على رأسها وتقسيم الهدايا على المدعوين في الزواج والزيارة، وفي مرحلة الإغراء تابعت البطلة استثمار جسمها واعتدال قامتها ورشاقتها، في ذيوع شهرتها بالجمال والأناقة بأن أضافت إليه المُكَمِّلات من ملابس وأحذية وحلي، حتى أغرت من تمر بهم فاقتنصت زوجها الملائم لها، وفي مرحلة الهدوء حركت البطلة المياه الراكدة بخطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها، وإذا كانت العقدة الرئيسة في الرواية هي شروط زوجها عبدالله بن جدعان فإن العُقد المتتابعة لها أثر في التشويق وحفز القارئ على المتابعة. ولا ننسى أبطال الرواية الآخرين وهم هوذة ابن علي ملك اليمامة وجاريته التي نقلت خبر جمال ضباعة، وعبد الله ابن جدعان وهشام بن المغيرة وسلمة ابن هشام (ابن ضباعة) وهناك أبطال آخرون لهم آثار ثانوية. وإذا كان السد هو لُبُّ الرواية لأنه يتوافر في معظم أجزائها، فإنَّ الحوار يفرض نفسه فيصبح واقعاً لا مفر منه وهو يبرز الأبطال المتوارين ويشد انتباه القارئ.
والرواية تهدف إلى المتعة ولكن الفائدة تندرج بين أجزائها، فكتابة هذه الرواية تستند إلى التاريخ، وسلاح الكاتب الثقافي مبثوث في الرواية، والتصدي لكتابة الرواية التاريخية ليس بالأمر السهل كما يعتقده البعض، بل يحتاج إلى ثقافة واسعة، وإلَّا أُسقط في يد الكاتب وتعثر في كتابته.
زمن الرواية آخر العصر الجاهلي وأول ظهور الإسلام أي قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو محدود بعمر بطلة الرواية ضُباعة، ومسرح أحداثها وسط وغربي الجزيرة العربية.
ولكن ما هي الرواية التاريخية؟
الرواية التاريخية، ضرب من الرواية يمتزج فيه التاريخ بالخيال، تهدف الرواية التاريخية إلى تصوير عهد من العهود أو حدث من الأحداث الضخام بأسلوب روائي سائغ مبني على معطيات التاريخ، ولكن من غير تقيد بها أو التزام لها في كثير من الأحيان، والواقع أن الروايات التاريخية - باستثناء قلة منها قليلة، من مثل رواية ( الحرب والسلم) لتولستوي - فلا ترقى من وجهة النظر الفنية إلى مستوى الروائع التي أبدعها روائيو العالم العظام، وعلى أية حال، فمنذ صدور أولى الروايات التاريخية، وهي رواية ( وايفرلي ) لوالتر سكوت Walter Scott، عام1814، والرواية التاريخية تنعم بشعبية واسعة، ومن أبرز ممثلي هذا الضرب من الرواية، بالإضافة إلى والتر سكوت ( في الإنجليزية ) وتولستوي( في الروسية ) ، ألكسندر دوما الأب ( في الفرنسية ) وجرجي زيدان ( في العربية).
فالرواية التاريخية تعني بعبارة موجزة نقل الأخبار والأحداث والوقائع التاريخية والإخبار عنها بصور النقل المختلفة، مثل النقل الشفهي، ونقل الوثائق، ونقل الكتب والمؤلفات، وقد كانت في بدايات نشأتها نقلاً شفوياً يعتمد على الحفظ والذاكرة، ثم بعد انتشار التدوين أُضيف إلى النقل الشفوي رواية الوثائق والرسائل المدونة، ثم رواية الكتب والمؤلفات وإسنادها إلى مؤلفيها بعد تحمّل روايتها بطرق تحمل العلم والمعرفة، مثل السماع من لفظ الشيخ، والعرض، والإجازة، والمكاتبة، ومع انتشار التأليف ووفرة الورق والوراقين دخل ميدان العلم وروايته من ليس أهله، ولذلك كانت الحاجة ماسة في النظر في تلك الأحاديث والأخبار لنقدها وتمييز الصحيح منها.
وقد تناول كبار النقاد الرواية التاريخية ومن أبرزهم الناقد المغربي أ.د. سعيد يقطين الذي قال إنها: «عملٌ سردي يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيّلية، حيث تتداخل شخصيات تاريخية مع شخصيات متخيلة».
وعرفها جورج لوكاتش بأنها: «رواية تاريخية حقيقة، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق».
أما الناقد التونسي أ.د. محمد القاضي فينقل عن رولان بارت قوله إن الرواية التاريخية: “نصّ جامع تقوم في أحنائه نصوص أخرى في مستويات متغيّرة، وبأشكال قد نتعرفها إن قليلاً أو كثيراً : هي نصوص الثقافة السابقة، ونصوص الثقافة الراهنة فكاّ نصّ نسيج طارف من شواهد تالدة“.
ونخلص من هذه الأقوال النقدية أن الرواية التاريخية ليست مثل بقية أنواع الروايات، فهي تتطلب أدوات خاصة لا توجد إلا عند أدباء لديهم قدرة على السرد وتوظيف الخيال الذي لا يتعارض مع الأحداث التاريخية التي يجب الإلمام بها بشكل دقيق، حتى يكون توظيف الخيال مقبولاً، وفي هذا النطاق ننتظر من أهل الأعمال السينمائية والدرامية تحويل رواية ضباعة العامرية إلى عمل سينمائي وخصوصًا أنها تحكي مرحلة تاريخية مهمة من مراحل التاريخ الجاهلي والإسلامي، وتعكس الجوانب الاجتماعية والثقافية والفكرية في ذلك الحين.