سهام القحطاني
دعا النص القرآني المسلمين إلى التفكّر والتأمل باعتبار أنهما يحققان الفهم و إدارة لغة الإفهام وهي دعوة تحررهم من تقديس الأحاديات التي كانت تسيطر عليهم في جاهليتهم بكل مظاهر تلك الأحادية بما فيها أنواع الإقصاء،و تدعم الرؤى التعددية الحاصلة من عمليتي التفكّر
و التأمل،وبذا فالإسلام يُقدم قيمة الاختلاف الثقافي لتأسيس تداولية المعرفة في مستوياتها التعددية على أحاديته.
حتى في العقيدة دعم اختلاف العقائد والحرية العقائدية لحكمة تتجلى في اختبار الاختيار لعدالة المحاسبة فيما بعد،ولعل هناك حكمة أخرى خافية على كل تأويل «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين»-هود-118-
وبذلك فالأصل في الثقافة الإسلامية هو احترام الاختلاف واستثماره في العلم والمعرفة و عمارة الأرض،وليس الأحادية سواء في مستواها العقدي أو الفكري.
لقد حرر الإسلام العرب من الثقافة العرقية كما حررهم من أحادية الثقافة الفكرية من خلال قانون المساواة بين البشر،هذه المساواة التي تعني اختلاط الثقافات ليس على المستوى العرقي فقط بل والديني عندما أجاز جواز المسلم من المرأة النصرانية أو اليهودية،وهو ما يعني حدوث نوع من التداولية الثقافية بين الثقافات المختلفة عبر سلالة الأجيال.
وهناك مصدرآخر للتداولية الثقافية في الإسلام وهو الإيمان بجميع الأديان السماوية السابقة،وهو ما يعني تقدير قيمة التراكمية والتي في جوهرها هي مجموع الثقافات والمذاهب العقائدية والفكرية في صيغهم المتجانسة أو المتنافرة، فالتنافر مصدر جذب في ذاته كما هو الحال في الانسجام.
وبالتالي فهما-الانسجام والتنافر-يلتقيان في قانون الجذب؛الصياغة الموحدة لنشأة التداولية؛لأنها مستويات التطور الشمولي لكينونة العقل الإنساني،فلا شمولية في الأحادية،بل في سلسلة الفرضيات وأسانيدها العقلية المختلفة،وفق صلاحية مُمكّنة بالأثر الناجح؛لأن العقل هو آلية التداول الثقافي وليس مصدره،ولذا جاءت آيات القرآن الكريم الداعمة للتداولية الثقافية بالتأمل والتفّكر وفق آليتي «الحافز و البرهان،الاستنتاج و القياس».
كان لتحول اللغة العربية إلى لغة أُمميّة في ظل الإسلام ترسيخ للتداولية الثقافية ليس للثقافة العربية بل للثقافة الإسلامية،لأن الثقافة العربية سقطت بظهور الإسلام كثقافة تداولية وخاصة بعد نزول الآية القرآنية التي تكشف عورة»الشعراء» السلوكية وتراجع الشعرلكونه هو الممثل الرسمي لثقافة العرب قبل الإسلام.وحتى الشعراء بعد ذلك لم يمثلوا امتدادا للتداولية الشعرية قبل الإسلام بل اتجاها فكريا جديدا وإن احتفظ بالشكلانية لبعض الوقت،و فشل محاولة الأصوليين من علماء اللغة في الاحتفاظ بهوية القصيدة الجاهلية وجعلها مصدرتداول ثقافي شمولي.
ثم يأتي الحواركقمة هرم التداولية الثقافية في صوره المختلفة في النص القرآني لترتيب طاولة تلك التداولية بين المختلفات في مستوياتها المختلفة الفكرية والعقديّة.
وبذلك فبنائية التداولية الثقافية تقوم على الثنائيات المختلفة نحو الأشياء في صيغها الرمزية سواء عبر دلالة اللغة أواستعمالها كسلوك إنشائي بقصد عمارة الأرض الذي يخصصها النص القرآني «بالأيام».
و يُشير القرآن الكريم بقوله «وتلك الأيام نداولها بين الناس»-آل عمران-140-إلى قانون التداولية فالأيام هي تاريخ وثقافات الشعوب،لا تسيطر عليه أمة دون أمة إنما تتناقله الأمم وفق قوانين القوة والسيطرة الثقافية، ثم ينتقل إلى أمة أخرى،وفق مواصفات ذات القانون.
الأصل للبنائية التداولية في الثقافة الإسلامية يعود إلى تفسير خطاب الأحكام الفقهية وخطاب الإعجاز العلمي ثم تأويل مالم يدل على الحكم بصورة مباشرة من خلال آليتي التقريب والإحالة، أوالاستدلالية عبر «المؤشرات» كما يُسميها « بنفنيست».
أسهم النحو في ترسيخ تلك البنائية للتداولية في الثقافة الإسلامية عبر آلية «الإعراب» باعتبارها قائد الفعل الكلامي والموقف التواصلي،وباعتبار العلامة الإعرابية مصدر استدلال الفهم التداولي للمواقف التواصلية.
ولذا ذهب بول غرايس إلى أن الفهم لا يحصل نتيجة الموقف الدلالي بل نتيجة الموقف التحادثي باعتباره مالك برهان الاستدلال،لأن الفهم لا ينحصر بذات اللغة بل بعنصري فعل الكلام عند طرفي الخطاب-المتكلم و السامع-وفق معنى القول المسموع والإحالات المتوارثة لسياق ذات المعنى عند الطرفين.
ولعل أبرز مظاهر التداولية الثقافية في الإسلام المذاهب الفقهية وآليات القياس الفقهي، ليظل الاختلاف مصدر رحمة وحركة لتلك التداولية، حركة هي الأصل في عظمة هذا الدين و إعجازه واستدامة صلاحيته وحضارته وهو ما تجلى جيدا في ظهور تلك المذاهب الفقهية،وإن سعى بعضهم إلى تعطيل تلك التداولية عبر تجميد الخطاب الفقهي.