د. غالب محمد طه
أيام قلائل تبقت، بل ساعات، تمضي دقائقها عجلي كأنها في سباق محموم للوصول إلى خط النهاية، تمضي ولا تلقي بالا بآهات المحبين والعاكفين والعاشقين، تمهل يا رمضان، تمهل أيها الشهر المبارك والقبس الإلهي المنير، تمهل، لم نشبع منك بعد، ولازال حديث حبيبك محمد -صلى الله عليه وسلم- يتردد صداه في عرصات مكة والمدينة «إنه قد أتاكم شهر رمضان، شهر يجود الله به على عباده، وينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله».
ليال كريمة، تجلى فيها رمضان بألوانه المتعددة. فالسماء تزينت بالنجوم، والقلوب توجهت نحو الله بالدعاء والتضرع وتقربت إليه بالطاعات، أيام مباركة قذى فيها الجميع السير بالأعمال الصالحات من صلاة وصدقات وتهجد، وإكثار من تلاوة القرآن الكريم في آناء الليل وأطراف النهار، وكثرة تسبيح وتهليل وتحميد وتكبير واستغفار، وغيرها الكثير من أوجه الخير، لحظات كان فيها الليل قائما، تلألأت فيه أضواء المساجد والشوارع. والقمر يراقبنا من بعيد، والمصاحف فتحت متونها للقراءة والتلاوة، ليال حملت في طياتها السكينة والتأمل والخشوع والأرواح تواصلت مع الله بهمسات تحمل الأمل والرجاء.
يا الله، يا لهذا الشهر العظيم الكريم الذي حمل في طياته الصيام والتأمل والتواد والتراحم، أتى بأجوائه الخاصة، ملئت فيه القلوب بالأمل والتواصل الاجتماعي وشحذت العزائم بقيم المحبة والتكافل والعطاء، وأعدت فيه موائد الإفطار، وتسارعت فيه خطوات باذلي الإحسان وفاعلي الخير في تسابق مبارك لتقديم وجبات الإفطار للصائمين في المساجد والطرقات ولقاصدي المسجد الحرام في صورة تعبر عن مجتمع مترابط ومتكاتف يشد بعضه بعضاً، صورة باهرة تعزز مفهوم الواجب الديني والأخلاقي والوطني، صورة عميقة ترسخ مبدأ التكافل الإنساني والاجتماعي بين عامة المسلمين وتعكس المعاني السامية للدين الحنيف، وما يجسده من القيم الإنسانية الأصيلة وتعكس الشغف والاحتفاء والفرحة بالصائمين وبضيوف وزوار الحرمين.
حيث تشهد المملكة العربية السعودية في شهر رمضان الفضيل سنويا أكبر تجمع إنساني من جميع دول العالم لأداء العمرة في المشاعر المقدسة، حيث تتجاوز طول سفرة الحرم المكي أكثر من أربعة كيلومترات تحوي وجبات متنوعة يقدمها شباب طهر يبذلون الابتسامة في احتفاء يليق بشرف البيت والمكانة. توافدت جموع المسلمين الصائمين من المعتمرين والمصلين وضيوف الرحمن من كل فج عميق جاءوا زمراً إلى ساحات الحرمين في تلاق إنساني يعبر عن عظمة هذا الدين، حيث بسطت سفر الإفطار في لوحة تضامنية تعتبر الأكبر على مستوى العالم من حيث التكافل الإنساني، وفي أجواء من التنظيم والترتيب دقيقة، تحرص على سلامة الأمكنة الشريفة وسلامة الغذاء المقدم، وما بين الصيام والإفطار تحدث موائد رمضان تغييراً اجتماعياً وروحياً في أنفس المعتمرين وضيوف الرحمن وتتناقله الألسن والأفئدة وهي تغادر الليالي الكريمة وتترك وراءها ذكريات لا تنسى. فالموائد الرمضانية أقيمت لتكون نافذة للتواصل والتآزر في شهر الخير، وموائد الرحمة جاءت لتقوية الروابط الاجتماعية في شهر الصيام وبين الإفطار والتراحم عززت العلاقات الإنسانية.
أيام تمضي والجميع استمتع بنفحات أيام الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، أيام مضت بسرعة وهي تهب على القلوب والأفئدة، لحظات بدت كأنها تعلقت بين السماء والأرض، في انتظار بشارة التقرب لله، فالشيطان قد قيد بسلاسل إلهية فأخمدت نيران الشهوات بالصيام.
نودع رمضان كما يودعه أهل الصفوة وألو الألباب من عباد الله المتقين الصالحين من خيار الأمة وخيارها، وفي النفس مخافة ورهبة بين القبول والرفض. نودعه ونحن نردد معك اليوم سيدنا علي كرم الله وجهك كما كنت تردد في أواخر ليالي رمضان: يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه! نردده ونحن نتمعن حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- وهو يقول: من هذا المقبول منا فنهنيه، ومن هذا المحروم منا فنعزيه، أيها المقبول، هنيئاً لك! أيها المردود، جبر الله مصيبتك.
ودعنا نقترب منك قليلاً يا رسول الله، ودعنا نردد معك اليوم، بقلوب خافقة وأنفاس متلاحقة والأمل يحدونا: اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه فإن جعلته فاجعلني مرحوما ولا تجعلني محروماً، الحمد لله على التمام، الحمد لله على البلاغ، الحمد لله على الصيام والقيام، اللهم اجعلنا ممن صام الشهر إيماناً واحتساباً وأدرك ليلة القدر وفاز بالأجر.
نستقبل عيد الفطر بقلوب مليئة بالشكر والأمل ومفعمة بالإيمان، ونعاهد أنفسنا على الاستمرار في الخير والتراحم.
اللهم بارك لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -و في حكامها وعلمائها واجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم احم بلاد المسلمين وشعوبها وابق على لحمتها وقوتها، والحمد لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على الرحمة المهداة رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وكل عام وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بخير وأختم بأبيات البحتري
بالبر صمت وأنت أفضل صائم
وبسنة الله الرضية تفطر
فانعم بعيد الفطر عيداً إنه
يوم أغر من الزمان مشهر