الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فللعلماء في هذا الدين مكانة عظيمة لا تنكر، وفضل كبير لا يكاد يحصر، هم الأمناء على وحي الله، وهم أهل خشيته، وهم كما قال عنهم العلامة الآجري (ورثةُ الأنبياء، وقُرةُ عين الأولياء، الحيتان في البحار لهم تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، هم أفضل من العبَّاد، وأعلى درجة من الزُّهاد، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يُذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع لهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بحسن تأديبهم يتنازع المطيعون، وبجميل موعظتهم يرجع المقصرون، جميع الخلق إلى علمهم محتاج، والصحيح على من خالف بقولهم محجاج ... هم سراج العباد، ومنار البلاد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيغ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا انطمست النجوم تحيّروا، وإذا أسْفَر عنها الظلام أبصروا).
ومما يدل على أهمية العلماء أن موتهم وفقدهم أمارة على ذهاب العلم، كما جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا».
قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ،} قال ابن عباس: «خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها».
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا
مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا
وَإِنْ أَبَى عَاد فِي أَكْنَافِها التَّلَفُ
قيل: لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.
وقال سفيان بن عيينه: «وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم»
يقول سعيد بن المسيب -رحمه الله-: «شهدت جنازة زيد بن ثابت -رضي الله عنه- فلما دُلّي في قبره قال ابن عباس رضي الله عنهما: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير».
يقال ذلك أيها القراء الكرام وقد ودعنا ببالغ الحزن والأسى وبقلوب راضية بقضاء الله وقدره، يوم الخميس الموافق الرابع من هذا الشهر المبارك شهر رمضان عام 1445هـ عالماً مربياً وداعيةً سلفياً من دعاة التوحيد والسنَّة ألا وهو شيخنا الفاضل عبدالله بن صالح القصير - رحمه الله تعالى وجعل قبره روضة من رياض الجنة.
وسوف أتناول في هذا المقال شيئاً من سيرته وأبرز صفاته فأقول وبالله التوفيق: ولد فضيلة الشيخ عبدالله في 25-8-1370هـ في قرية الشقة العليا القريبة من بريدة بمنطقة القصيم، حيث درس الابتدائية في قريته، ثم درس المرحلتين المتوسطة والثانوية في المعهد العلمي ببريدة، وكان من جملة شيوخه في المعهد أصحاب الفضيلة الشيخ صالح بن إبراهيم السكيتي، والشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، والشيخ علي بن سليمان الضالع؛ وحضر دروس عدد منهم في المساجد، كما أنه حضر واستفاد من دروس فضيلة الشيخ صالح بن أحمد الخريصي رئيس محاكم القصيم سابقاً - رحمهم الله جميعاً.
ثم بعد ذلك انتقل إلى الرياض وتخرج من كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1397هـ وتلقى العلم في مدينة الرياض على عدد من العلماء من أبرزهم شيخنا العلامة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان عضو اللجنة الدائمة للفتوى وعضو هيئة كبار العلماء حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية.
حيث قال عنه الشيخ عبدالله كما في لقاء إذاعي: (هو شيخي الأول في الرياض وقد نفعني الله عزَّ وجلَّ بتوجيهاته لأنه ذو عقل راجح و أدب جم وخلق رفيع).
كما أنه استفاد من دروس سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رئيس مجلس القضاء الأعلى -رحمه الله- وفضيلة الشيخ صالح بن علي الناصر -رحمه الله- وفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم - رحمه الله.
وأما إمام أهل السنة في زمانه سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- فقد لازمه الشيخ عبدالله عدة سنوات علمياً وعملياً ووظيفياً، ولا زلت أتذكر قراءته على سماحة الشيخ من كتاب شرح السنة للبغوي، وذلك بعد صلاة الفجر من كل يوم خميس من كل أسبوع في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض، كما أنه استفاد من سماحته في الجانب الدعوي والوظيفي أثناء عمله معه في الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وقد كلفه سماحة الشيخ بإدارة مركز الدعوة والإرشاد بالرياض في بدايات تأسيسه، فقام الشيخ بوضع برامجه ومناشطه وطريقة آلية عمله، وكان سماحة الشيخ -رحمه الله - يثق فيه وفي علمه ورجاحة عقله، حيث كان يكلفه بحضور بعض المناسبات واللجان خارج المملكة في عدد من الدول الإسلامية.
وقد تحدث الشيخ عبدالله عن شيخه الإمام ابن باز فقال: (شعرت منه بحنان الوالد وشفقة الأب، وكان يتفقدني إذا خفي عليه صوتي، وإذا انقطعت عنه مدة سأل عني وعاتبني، فكان نعم الموجه، وقد تأثرت به في جوانب كثيرة ومهمة).
ومن أعماله أيضاً -رحمه الله - أنه شارك في تدريس مقررات شرعية في كلية الملك فهد الأمنية وكلية الملك عبد العزيز الحربية و كلية الشريعة وكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وأما الدعوة والتدريس في المساجد فكان للشيخ - رحمه الله - عدد كبير من الكلمات والمحاضرات والدروس في عدد من المساجد، وكانت دروسه ترتكز على أهم الكتب في التفسير والحديث والمصطلح والعقيدة والفقه ومنها تفسير ابن كثير وتفسير السعدي، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم وسنن أبي داود وشرح السنة للبغوي، وبلوغ المرام، وعمدة الأحكام وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وشرح السنة للبربهاري ولمعة الاعتقاد، وثلاثة الأصول والعقيدة السفارينية، وغيرها كثير، وقد أكرمني الله بقراءة بعض الكتب عليه لاسيما في مجال العقيدة حيث تميز -رحمه الله - بتأصيل العقيدة وتقرير منهج السلف الصالح والرد على المخالفين وكشف شبهاتهم، ومن ذلك التعليقات والفوائد التي استفدتها منه أثناء قراءتي عليه في كتاب (منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس) للعلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله-، كما أنني تشرّفت وقرأت عليه شيئاً من كتابي «إرشاد الأنام إلى أصول ومهمات دين الإسلام» فاستفدت كثيراً من تعليقاته وتصويباته.
أما مؤلفاته، فللشيخ -رحمه الله - مؤلفات قيمة منها: الفوائد السنية على العقيدة الواسطية، والمفيد على كتاب التوحيد و التعليقات على كشف الشبهات والبيان لأركان الإيمان والمستفاد على لمعة الاعتقاد، والإصابة في حقوق وفضائل الصحابة، وإفادة المسؤول على ثلاثة الأصول وتذكرة الصوام بشيء من أحكام الصيام والقيام، وزاد الحجاج والمعتمرين، وتذكرة أولي الغير بشأن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذكرى بخطر الرياء وشهادة الزور وخطرها، وتذكرة الناس بشأن اللباس وديوان خطب باسم اللمع من خطب الجمع في ثلاثة مجلدات وفوائد ومعالم مهمه عن إمام الأمة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- والآداب والأذكار المأثورة، وتبصرة الهداة بشأن الدعوة والدعاة والإرشادات المهمة لعامة الأمة، وبحوث ورسائل أخرى في عدة موضوعات.
ومن كتبه المختصرة المفيدة التي كان حريصاً على نشرها كما حدثني بذلك بنفسه كتاب له مختصر بعنوان (كشف شبهات المخالفين في توحيد الأنبياء والمرسلين).
وأما الصفات الحميدة التي تميز بها الشيخ -رحمه الله - في ضوء معرفتي به لأكثر من خمس وعشرين سنة فمن أبرزها:
أولاً: سلوكه منهج العلماء السلفيين في العناية بالعقيدة والتوحيد تعلماً وتعليماً ودعوة إليه من خلال كلماته وخطبه ومحاضراته ودروسه، وهذا هو الواجب على العلماء والدعاة لأن التوحيد أهم المهمات وأوجب الواجبات والغاية من خلق الجن والإنس وهو دعوة الأنبياء والمرسلين، ولا تكون الأعمال مقبولة عند الله تعالى إلا بالتوحيد، ومما نقله الثقات عن الشيخ عبدالله قبل دخوله في غيبوبة مرض وفاته وصيته -رحمه الله - بالتوحيد فكان يقول لمن حوله: (عليكم بالتوحيد عليكم بالتوحيد فإنه الآن يسرق من القلوب كما يسرق المتاع من البيت).
ثانياً: عنايته -رحمه الله- بالسنة والتحذير من البدع والمحدثات في الدين.
ثالثاً: اهتمامه -رحمه الله - بالدعوة إلى منهج السلف الصالح منهج الوسطية والاعتدال والتحذير من الفرق الضالة والجماعات الحزبية مع اطلاعه الواسع على مناهج المخالفين وأساليبهم.
رابعاً: تقريره وتأكيده -رحمه الله - لمنهج السلف الصالح في لزوم الجماعة والسمع والطاعة لولاة الأمر بالمعروف، ودفاعه عن بلاد التوحيد المملكة العربية السعودية، والرد على المخالفين لاسيما أيام الثورات وما يُسمى زوراً وكذباً بالربيع العربي.
خامساً: شمولية أخذه -رحمه الله تعالى - بمنهج السلف الصالح في العلم والعمل والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه، فقد تميز -رحمه الله - بالاهتمام بالعلم والعمل به وكثرة العبادة والتلاوة والذكر، والتخلّق بالأخلاق الكريمة والمعاملة الحسنة، وبذل النصيحة الصادقة للحاكم والمحكوم، والورع والزهد، مع عنايته -رحمه الله - بالرد على المخالفين وكشف شبه المبطلين.
ومما أذكر من المواقف في تربيته لطلابه على العمل بالعلم أنني كنت معه يوماً ما أثناء خروجه من المسجد وبعد فراغه من الدروس، فرأى أحد الطلاب يقدم رجله اليمنى أثناء خروجه من باب المسجد فالتفت إليه الشيخ وقال له بأسلوبه الجميل لماذا تتعلم العلم؟ قدم رجلك اليسرى، وهذا تنبيه منه -رحمه الله - إلى أن ثمرة العلم العمل به، وقد قال الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هتف العلم بالعمل، فإن أجابه، وإلا ارتحل).
ويقول العلامة السعدي - رحمه الله: (كان السلف يستعينون بالعلم على العمل, فإن عمل به استقر ودام ونما وكثرت بركته, وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته, فروح العلم وحياته وقوامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً وتعليماً ونصحاً).
سادساً: أخلاقه الطيبة وتواضعه وتفقده لطلابه ومحبيه ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، ومن ذلك حضوره وتعزيته لي ولإخواني في وفاة الوالد -رحمه الله - عام 1435هـ ثم تعزيته أيضاً لنا في منزلنا في وفاة الوالدة -رحمها الله - عام 1440هـ، فكانت هذه المواقف النبيلة منه -رحمه الله - سبباً في تخفيف المصاب وتسلية النفس وحصول المواساة، ومن دلائل تواضعه -رحمه الله - وهضمه لنفسه عندما بدأت حضور دروسه قال لي اذهب للشيخ صالح الفوزان (كأنه لا يريدني أحضر عنده)! فقلت له -رحمه الله - أحضر عند الشيخ صالح وأحضر عندك أحسن الله إليك، ومن مواقفه معي الدالة على تواضعه عندما زرته الزيارة الأخيرة في المختصر الخاص به في مسجده قبل دخوله في غيبوبة مرض وفاته بأيام قلائل قال لي مودعاً بعد انتهاء الجلسة وقد ركبت سيارتي: (لا تتركنا ترى الزيارات بين طلاب العلم نافعة) فكانت هي آخر الكلمات التي سمعتها منه -رحمه الله تعالى رحمة واسعة.
وفي نهاية المطاف أقول إنه مما يسلينا ويعزينا في رحيل الشيخ أن جنازته -رحمه الله - كانت جنازة مشهودة، حيث امتلأ جامع البابطين بالمصلين من المشايخ والدعاة وطلاب العلم والمحبين، وقد كانت جنازته هي الجنازة الوحيدة التي صلينا عليها، وقد تقدم المصلين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبد الرحمن نائب أمير منطقة الرياض، وبعد فراغنا من الصلاة تحدث معنا الأمير -حفظه الله - وأثنى على الشيخ كثيراً بما قدمه من أعمال جليلة في خدمة دينه ووطنه.
وقبل ختم المقال وصيتي لأبناء الشيخ -حفظهم الله وبارك فيهم - ولإخواني الكرام من محبيه وطلابه وللمحسنين الباذلين والقائمين على المؤسسات المانحة السعي في إعادة طباعة كتبه ومؤلفاته وجمعها في مجموع واحد ليسهل حفظها ونشرها والاستفادة منها.
رحم الله الشيخ العالم والعبد الصالح عبدالله بن صالح القصير وجمعنا به ووالدينا في الفردوس الأعلى من الجنة، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
د. عمر بن عبدالرحمن العمر - عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء