المحجوب بنسعيد
اختتمت يوم الاثنين الماضي في مكة المكرمة أعمال المؤتمر الدولي حول «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وحضره عدد من كبار الشخصيات الإسلامية من المفتين وكبار العلماء من داخل وخارج المملكة العربية السعودية يمثلون مختلف المذاهب والطوائف الإسلامية. واعتمد المشاركون في ختام المؤتمر (وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية). كما اتفقوا على عقد المؤتمر الثاني لبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية السنة القادمة، لمناقشة مستجدات الساحة الإسلامية، وتشكيل «اللجنة التنسيقية بين المذاهب الإسلامية»، وتكليف الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بإعداد نظامها ورئاستها وأعضائها وأمانتها، بالتشاور مع كبار الشخصيات الإسلامية من مختلف المذاهب.
قبل عرض مضامين وتوجهات هذه الوثيقة المرجعية، من المهم الإشارة إلى أن الاهتمام بموضوع المذاهب الإسلامية في العصر الحديث انطلق في منتصف القرن العشرين، وسعى إلى تحقيق هدف رئيس هو التقريب بين هذه المذاهب. وفي هذا السياق تم تأسيس «جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية» في القاهرة عام 1947، وبعده تم إنشاء «المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية» في طهران عام 1992.كما أصدرت منظمة الإيسيسكو «استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلامية عام 2003 وأنشأت «المجلس الاستشاري الأعلى لمتابعة تنفيذ هذه الاستراتيجية. وفي عام 2012 أنشئ «مركز الحوار بين المذاهب الإسلامية « في الرياض.
إن هذه المبادرات، بالرغم من أهميتها ومصداقيتها وحسن نوايا القائمين بها، لم تتمكن من وضع حدٍّ لتفاقم النعرات الطائفية والنزاعات المذهبية في العالم الإسلامي، مما شكل خطراً كبيراً على السلم الاجتماعي والروحي داخل بلدان العالم الإسلامي. ومن بين العوامل التي ساهمت في عدم تحقيق أهداف التقريب بين المذاهب الإسلامية يأتي في المقدمة إقحام الاختلافات الفقهية والطائفية في أتون الخلافات السياسية من طرف بعض الدول الإسلامية بهدف تحريك الشعوب لتأييد هذه الفئة أو تلك، وتوظيف الاختلاف المذهبي في المشروعات والمخططات السياسية الإقليمية. بالإضافة إلى ظهور الجماعات الإسلامية المتطرفة وتأثيرها السياسي والديني محلياً وإقليمياً ودولياً من خلال اختياراتها الفكرية القائمة على الانغلاق والتكفير والتوظيف السياسي المشوّه للخلافات الدينية والمذهبية.
من خلال تفحص مضامين وتوجهات (وثيقة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية)، يتبين أنها كانت قوية ومبدعة من حيث أسلوبها ولغتها الجامعة بين الصياغة الأدبية التعبيرية الراقية وبين الأسلوب الفقهي الدلالي. ولم تكن وثيقة غنشائية، أو أفكاراً متناثرة وخواطر انفعالية، بل كانت نصاً محكماً ينطلق من مرجعيات إسلامية تأصيلية، ويتأسس على منهجية علمية ومنطقية.
تشتمل هذه الوثيقة على ديباجة مرجعية عامة و28 بنداً. وتمحورت هذه البنود حول عدد من القضايا والمواضيع في مجالات متعددة ومتكاملة. تم الإعلان في الديباجة أن منطلق الوثيقة هو مبدأ الإسلام الداعي إلى تعزيز الأخوة الإسلامية، وأن مرجعيتها هي وثيقة مكة المكرمة التي اعتمدها 1200 عالم ومفكر من مختلف المذاهب والطوائف الدينية في العالم الإسلامي في ختام أعمال المؤتمر الإسلامي الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في مايو 2019. كما تم توضيح الأسباب الداعية إلى اجتماع علماء العالم الإسلامي في المؤتمر الدولي حول «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية».
وتضمنت الوثيقة 28 بنداً توزعت حول خمسة مجالات أو قضايا رئيسة هي:
* المجال التشريعي حيث تم التذكير بأن المسلمين أمّةٌ واحدةٌ، يَعبدون ربّاً واحداً، ويتلُون كتاباً واحداً، ويتّبعون نبياً واحداً، ويَجمعُهم قبلةٌ واحدة، كما تم التعريف بصفات المسلم وبخصوصيات رسالة الإسلام، وبمصادر الإسلام المحصورة في القرآن والسيرة النبوية الصحيحة وما أجمعت عليه الأمّة. وشددت الوثيقة على أن الإسلام رسالة الله الخاتِمة، المنزّلة على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم. وأكدت الوثيقة أن تكوين شخصية الاعتدال من مسؤولية العلماء والفقهاء، واعتبرت تعدُّد المذاهب الإسلامية من جملة السنن الإلهية الكونية القَدَريَّة التي قضت بحتمية الاختلاف والتنوع. وحذرت الوثيقة من الفرقة والشتات لأن ما يَجمع أتباع المذاهب الإسلامية أكبرُ مما يفرّقهم. وأوضحت أن المذاهب الإسلامية هي نتاج حراكٍ علمي قائم على احترام الأصول والثوابت.. ودعت الوثيقة المسلمين كافة إلى الاستفادة من أحداث التاريخ ووقائعه، وتفادي العودة إلى السجالات والصراعات التي حصلت في الماضي، والتخلص من الشعارات الطائفية والحزبية التي كانت سبباً في الصدام والصراع المذهبي.
* المجال الاجتماعي والتربوي حيث اعتبرت الوثيقة الأسرة أهم محاضن التربية والتهذيب تقوم بحماية الأجيال من الانحراف وتغرس في نفوسهم قيم الإسلام السمحة ومن ضمنها تعزيز قيم الأخوة والتفاهم والتعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية. وأكدت الوثيقة أهمية التعليم ودوره المركزي في صياغة عقول النشء وتربيتهم على الاحترام المتبادل، مع الإشارة إلى أن ذلك يتوقف على كفاءة المعلم وسلامة المنهج الدراسي. وشددت الوثيقة على أهمية دور المرأة المسلمة في تحقيق الأهداف المنشودة من بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية.
* المجال الإعلامي والتواصلي حيث تم إبراز دور الخطاب الإسلامي الإعلامي في تعزيز الأخوة والتعاون بين المذاهب الإسلامية، وتصحيح المفاهيم المغلوطة داخل العالم الإسلامي، والتصدي للحملات الإعلامية البغيضة التي تروج معلومات مغلوطة عن الإسلام ومسيئة لحضارته ومقدساته. وأكدت الوثيقة أن التوظيف السلبي لوسائل الإعلام التقليدية والجديدة يصعد الخلافات ويثير العداوات في الداخل الإسلامي، ودعت الإعلاميين إلى نهج الحوار الهادف البعيد عن التعنيف والتشهير. وحذرت من الفتن، والابتعاد عن «التنابُز بين المسلمين، وتهييج مشاعرهم المذهبية، والنيل من رموزهم، وازدراء اجتهاداتهم».
لقد تعهد العلماء المشاركون في هذا المؤتمر بمضامين هذه الوثيقة، وبالعمل على ترسيخها في مجامعهم العلمية، ومجتمعاتهم الوطنية، كما التزموا بدعوة كافة الجهات العلمية والشخصيات المجتمعية والمؤسسات الوطنية إلى تأييدها ودعمها. وبناءً عليه فإن المسؤولية في تحقيق الأهداف النبيلة لهذه الوثيقة تقع على عاتق جميع الجهات المعنية في العالم الإسلامي، في مقدمتها القطاعات الحكومية المعنية بالتربية والتعليم، والأوقاف والشؤون الإسلامية، والشباب والثقافة والتواصل، والمنظمات العربية والإسلامية مثل منظمة التعاون الإسلامي ومنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، ومؤسسات المجتمع المدني، والجامعات والمعاهد ومراكز البحث، ووسائل الإعلام بمختلف أصنافها. إن تضافر الجهود بين جميع هذه المؤسسات، بالتنسيق مع الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، سيساعد من دون شك في تحقيق أهداف مشروع «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية»، وعدم الوقوع في التعثرات والإخفاقات التي اعترضت مسيرة مشروع «التقريب بين المذاهب الإسلامية».
ختاماً من المهم التذكير بأن الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي نال جائزة النرويج «باني الجسور» العالمية لعام 2021، اعترافاً بجهوده الاستثنائية في تجسير العلاقة بين أتباع الأديان والحضارات ومكافحة الأيديولوجيات المتطرفة. ولعله حان الوقت لاستفادة العالم الإسلامي من خبرته الواسعة في التواصل والحوار وبناء الجسور وتوسيع قاعدة التفاهمات واستثمار المشتركات، بدءاً من المذاهب الإسلامية، لنزع فتيل الصراعات الطائفية، وتقوية الحوار الإسلامي - إسلامي، وبالتالي تمكين العالم الإسلامي من مخاطبة الآخر من موقع فكري موحد وفاعل ومؤثر.