عبدالرحمن الحبيب
مرحباً بكم في زمن الإقطاعية التكنولوجية فقد انتهت الرأسمالية.. أما الإقطاعيون الجدد فهم جيف بيزوس، وإيلون ماسك ومارك زوكربيرغ والقلّة الآخرون من مالكي عمالقة التكنولوجيا في العالم اليوم. يُقصد بالإقطاعية النظام الاقتصادي السياسي الاجتماعي الذي هيمن على أوروبا في العصور الوسطى، حين كان الفلاحون (الأقنان) يخدمون أسيادهم الإقطاعيين (النبلاء) من خلال الزراعة والعمل بدون أجر مقابل العيش داخل مملكتهم مع دفع إيجار الأرض. الآن مع كل نقرة وتمريرة، نعمل مثل الأقنان لزيادة قوة بمنصات التكنولوجيا الكبرى وإيجاراتها.
هذا الطرح الغريب يمثل الفكرة الأساسية لكتاب جديد لوزير المالية اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، ذي التوجه اليساري الماركسي، عنوانه «الإقطاعية التكنولوجية: ما الذي قتل الرأسمالية» (Technofeudalism: What Killed Capitalism). فكرة الكتاب بأن المبالغ المجنونة من الأموال التي كان من المفترض أن تعيد تعويم اقتصاداتنا في أعقاب الأزمة المالية وجائحة كورونا، انتهى بها المطاف إلى تعزيز سيطرة شركات التكنولوجيا الكبرى على كل جانب من جوانب الاقتصاد. وتم استبدال الركيزتين التوأمين للرأسمالية - الأسواق والربح - بمنصات التكنولوجيا الكبرى وإيجاراتها. وإذا كانت الرأسمالية (النظام الحالي) أسقطت الإقطاعية وحلت محلها تدريجياً مع عصر التنوير في القرن التاسع عشر.. فإنه بدلاً من الزعم اليساري بأن الاشتراكية ستسقط الرأسمالية فإن الإقطاع التكنولوجي هو من يفعل ذلك الآن، حسب فاروفاكيس.
برأي فاروفاكيس، أنه مثلما شهد القرن التاسع عاشر تحوّلاً كبيراً من خلال نقل السلطة من الإقطاعيين أصحاب الأراضي إلى مالكي آلات السفن البخارية والمغازل الآلية والشبكات الكهربائية (الثورة الصناعية)، فتحوّل خلق الثروة من تراكم الريع إلى جني الأرباح، نشهد اليوم، تحوّلاً مماثلاً من جني الأرباح إلى تراكم الريع مجدداً. الفارق حالياً هو أن الأراضي التي يملكها الإقطاعيون، هي أراضٍ رقمية، نعرفها جيداً في وقتنا الحالي باسم «منصّات».
يقول فاروفاكيس إنه من خلال ظهور التكنولوجيا السحابية (Cloud technology)، خضعنا لتحول تاريخي أدى إلى تلاشي السوق الرأسمالية التقليدية. حالياً، الإقطاعية التكنولوجية تعني أننا نخدم أسياد التكنولوجيا الكبار لدينا (أمازون وجوجل وأبل وميتا) من خلال تسليم البيانات للوصول إلى المساحة السحابية الخاصة بهم. فمن خلال هذه الإقطاعية التكنولوجية لم تعد تفضيلاتنا تخصنا، بل تم تصنيعها بواسطة شبكات الآلة، المعروفة باسم السحابة. إنها مدعومة بفكرة مفادها أن السحابة قد أنشأت حلقة ردود فعل تزيل وكالتنا، فنحن ندرب الخوارزمية للعثور على ما نحبه، ثم تدربنا الخوارزمية على الإعجاب بما تقدمه.
العامل المهم الثاني بالنسبة لفاراكوفيس هو كيفية تحايل الشركات أمثال أمازون على السوق التناظرية التقليدية.. يقول: «بمجرد أن تريد شيئًا ما، نتيجة للتفاعل مع الآلة، تبيعه لك الآلة مباشرة.. ليس عليك الذهاب إلى وكيل مرسيدس بنز أو منفذ بيع البرجر لشرائه. ما عليك سوى النقر على زر وستقوم أمازون بشحنه إليك.. لقد حلت أمازون محل السوق.. يعتقد بعض الناس أن أمازون سوق كبير لأن لديهم الكثير من البائعين والمشترين، لكن الأمر ليس كذلك. هناك الكثير من البائعين والمشترين، لكن الخوارزمية هي التي تطابقهم بطريقة لا علاقة لها بأي فكرة للسوق كما نعرفه.» قد يبدو المشهد وكأنه مجرّد سوق، إلا إنه في الواقع ليس كذلك؛ فأمازون هنا لا تنتج رأس المال، بل هي فقط تتقاضى الإيجار من الرأسماليين (التجّار/ المعلِنون)؛ إنها أشبه بسحابة رقمية مملوكة من رجل واحد لا يعتمد تراكم ثروته على الربح ولكن على شكل من أشكال الريع. في كل مرة تشتري فيها شيئاً من أمازون، يذهب 30 إلى 40 % من السعر إلى بيزوس، وليس إلى الصانع».
ويرى فاروفاكيس إن عدم فهم الحكومات والبنوك للسحابة والتكنولوجيا الكبيرة يجعل أزمتنا المالية «دائمة»، لأن «رأس المال السحابي ليس مثل الروبوتات الصناعية أو أنظمة الهاتف، إنه ليس مثل شبكات الكهرباء، فهو ليس موجودًا للإنتاج، ولكنه موجود لتعديل سلوكك.. إنه شكل جديد من أشكال رأس المال، إنه وسيلة منتجة لتعديل السلوك.»
إنما فاروفاكيس يشير إلى أن الوقت لم يفت بعد لتحرير أنفسنا من حالة العبودية السحابية التي نعيشها. «ما نحتاجه هو السيطرة الاجتماعية على الخوارزميات. والسؤال هو - ليس ما الذي يعرفونه عنا، ولكن من يملكهم؟ وكيف يمكن للمجتمع المنظم السيطرة على الخوارزميات لصالح الأغلبية؟»
في الوقت الذي لاقت به نظرية فاروفاكيس احتفاء لفرادتها وغرابتها فإنها أيضاً لقيت نقداً فنّد أغلب ما جاء فيها، لا سيما القول بأن كل هذه التغييرات التي طرحها فاروفاكيس ليست نظاماً جديداً يزيل الرأسمالية، بل هي مرحلة من مراحل الرأسمالية وشكل جديد لها يعمل ضمن قواعدها في سياق الديناميات الاقتصادية والاجتماعية المتغيّرة.. فالنظام الاقتصادي لا يزال يعمل ضمن المنافسة في السوق مثل ما نراه من «الرأسمالية المعرفية» والاقتصاد الرقمي.