سلمان بن محمد العُمري
تمتد علاقتي بالزلفي لما يزيد عن الخمسين عاماً وزرتها وأنا طفل صغير مع الوالدة وإخواني بصحبة جدي لوالدتي -رحمهما الله-، وذلك عقب وفاة والدي بمدة يسيرة، ولا أنسى حرارة الجو صيفاً في منطقة العقل بالزلفي وتحول حبيبات الرمل في عز الظهيرة إلى ذرات جمر، وهذه الحرارة أنسانا بها بركة ماء نلهو بها صباح مساء ولن أنسى الجح والشمام والعنب والقرع وسائر الخضراوات التي جعلتنا عدة أشهر لا نخرج من المزرعة لأي أمر.
وتناوبت زياراتي إلى الزلفي خلال عملي في قطاعين مختلفين، وكذلك الزيارات الخاصة ومنها ما يكون في مواسم الربيع والأمطار ولاسيما أن الزلفي محاطة بمجموعة من الفياض والرياض والشعبان الجميلة وهي محافظة من أجمل بلدان نجد طبيعة، حيث تجمع بين الجبل والسهل والرمل، وهي محافظة تستحق الزيارات المتكررة، وقد التقيت خلال زياراتي بأهلها ووجهائها وشيبها وشبابها ووجدت فيهم الالتزام الديني وولاءهم لقيادتهم ومحبتهم لوطنهم وإخلاصهم وتفانيهم لبلدتهم.
وقد زاملت الكثير منهم في الدراسة والعمل، وعندي صداقات كثيرة مع رجالاتها الأخيار ممن افتخر بهم.
ومن الأمور الجميلة في البلدة وكثير فيها الجميل عنايتهم ببيوت الله ونظافتها ونظافة مرافقها حتى لتتمنى أن تكون هذه العناية في سائر مدننا وأولها الرياض، فحتى المساجد ذات المساحة الصغيرة في المزارع والأرياف قمة في النظافة والعناية والاهتمام من القائمين عليها ومن قاموا ببنائها، والأمر الآخر الذي يلفت الانتباه ولا يكاد يخلو منه مسجداً صغيراً كان أم كبيراً النوعية المتميزة في سقيا المساجد سواءً في الماء البارد أم في السقيا العامة لمن أراد تعبئة المياه بجوالين أو براميل، فقد تمت تهيئة النوعين بتصاميم جميلة وبوسائل غاية في الجودة والتميز والإتقان حتى أصبحت هذه البلدة الكرام أهلها مضرب مثل في سقيا المياه وفي تميزها كماً وكيفاً.
وغني عن القول وهو معلوم لدى الجميع فضل سقيا الماء، فسقيا الماء فيه فضلٌ عظيمٌ؛ ولهذا وضع الإمام البخاري -رحمه الله - في صحيحه باباً كاملاً أسماه: «باب فضل سقي الماء»، وأورد فيه الأحاديث الخاصة بالباب وما ذاك إلا لأن سقيا الماء للعطشى من بني آدم أو من البهائم فيه خيرٌ عظيمٌ وفضلٌ كبيرٌ، ويعد سقيا الماء من أفضل الصدقات الجارية للميت؛ أتى سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله: إن أمي توفيت، ولم توص أفينفعها أن أتصدق عنها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وعليك بالماء»، وسُئل ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ فقال: الماء، ألم تروا إلى أهل النار حين استغاثوا بأهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ}. قال الإمام القرطبي (في هذه الآية دليل على أن سقيا الماء من أفضل الأعمال). «من كثرت ذنوبه؛ فعليه بسقيا الماء».
وأتمنى أن تستفيد بقية البلدان والمناطق من هذه التجربة المميزة في الزلفي سواء في نوعية خدمات السقيا الملحقة بالمساجد أو حتى نظافة المسجد ومرفقاته، فلا تجد برادات متناثرة ومتعطلة ومختلف ألوانها، بل تجد التصميم الجميل والمظلات الخاصة والأنيقة، وتجد عند السقيا (ليات) ضغط أشبه بمضخات البنزين تضخ الماء بدفع عال وقوي ولا يؤم صاحب الحاجة، وليس غريباً على أهل هذه البلدة الجود والكرم وحسن العمل فقد صقلتهم السنين وأبناء الزلفي ممن يتصفون بالتجارة والترحال وامتدادهم شمل الدول المجاورة وحيثما حلوا كانوا مباركين.