الرياض - واس:
لطالما شكّلت الدرعية في عصر الدولة السعودية الأولى مركزًا حضاريًّا للعلم والثقافة والتجارة، وهو نهج تبناه الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الأولى؛ بعد أن عانت الجزيرة العربية عمومًا ولسنوات طويلة من الإهمال وعدم الأمان والاستقرار. ومنذ توطيد أركان الدولة السعودية الأولى عام (1139هـ / 1727م)؛ حرص الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- على نشر العلم والتعليم والتطوير والتنمية، وجعل ذلك من أولوياته؛ حتى أضحت الدرعية نموذجًا، طبّقه وطوره، وتحولت من دولة مدينة إلى دولة واسعة توحّد كل الأرجاء. يقول المختص بالتاريخ السعودي الدكتور محمد العبداللطيف: «إن الجزيرة العربية عانت قديمًا من الإهمال وعدم الأمان والاستقرار، والفوضى استمرت 1000 عام، حتى أسس الإمام محمد بن سعود دولة استثنائية من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، وهي جذور أسسها وأكمل المسيرة من بعده الأئمة والملوك وصولًا لعهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-».
ويعود تاريخ بناء الدرعية للعام 850هـ، حيث قامت وتأسست على ضفتي وادي حنيفة في عهد الأمير مانع بن ربيعة المريدي، الذي جعل من حي «غصيبة» -وهو النواة- الحي الرئيس في المدينة، وجعل «فيضة المليبيد» الاختيار الأنسب لأن تكون مقرًا للمزارع الخاصة بالدرعية بسبب توافد السيول من خلال وادي صفار -أحد روافد الأودية بالدرعية- الذي كان سببًا في نقل التربة الخصبة والمياه للفيضة. وتطورت الدرعية بعد ذلك شيئًا فشيئًا، ونشأت أحياء جديدة، (الطرفية، سمحان، السهل، المريّح، القصيرين، البجيري، الظويهرة، السريحة)، وأحياء أخرى كثيرة، وفي عهد الإمام عبد العزيز بن محمد، عمل على نقل الدولة من الجانب الشرقي لوادي حنيفة إلى الجانب الغربي منه، ونشأ حي الطريف، الذي تميز بموقعه الإستراتيجي، لذلك نقل إليه مقر الحكم والإدارة وبنى فيه قصر سلوى والجامع الكبير، وبعد ذلك شيدت القصور وبيوت الأمراء. عمارة الدرعية..
بصمة خاصة في الثقافة السعودية
تُشكل الدرعية بصمة خاصة في الثقافة السعودية، فأحياؤها التراثية، وعمارتها الأثرية، ومتاحفها، أصبحت مركزًا عربيًّا حضاريًّا تمتزج فيها عراقة التاريخ وأصالة الحاضر. واشتهر في الدولة السعودية الأولى (قصر سلوى، ومسجد الطريف) وتميزا بجمال التصاميم، وقوة البناء، وقد أبدع البناؤون المحترفون في إظهار العناصر الجمالية الخارجية لمباني الدرعية عموماً، حيث زينت بالحقاف وهي الزخرفة التي تقع فوق الأفاريز «الحداير» وهي عبارة عن خطوط زخرفية ناتئة ومثلثة تحيط بواجهة البيت، ومن وظائفها حماية الجدار من مياه الأمطار، و»الزرانيق» وهي الركن العلوي من البيت، و»الشرف» وهي زينة السطح.
ومن مميزات العمارة في ذلك الوقت وجود ثقوب مثلثة في الجدران، لتهوية البيوت وإدخال الإضاءة إليه، وكانت تعرف بـ«اللهوج» عند أهل نجد. وتميّزت العمارة في مدينة الدرعية وتحديدًا في حي الطريف - وفق الدكتور العبداللطيف- بعددٍ من العناصر المعمارية لم تكن مألوفة في الجزيرة العربية، ما أعطت فكرة عن أسلوب البناء في ذلك الوقت، ومنها الارتفاع، حيث بلغ ارتفاع «قصر سلوى» بين 22 و23 مترًا، كما تميز الطراز المعماري بضخامة المباني وسماكتها وقوة بنائها، ويظهر ذلك في صمودها حتى عصرنا الحديث، إضافة إلى جمالياتها المتنوعة وغير المستنسخة، مما يدل على النهضة المعمارية والفنية المتطورة، وكل تلك العناصر توضح الأصل الذي بنيت عليه الطّرُز المعمارية التي نعيشها اليوم.
ومن العوامل التي أثرت في التصاميم المعمارية في ذلك الوقت هي الروابط الاجتماعية والأسرية، حيث راعت الخصوصية في أجزاء البيت، (المداخل، والشبابيك، وتميزت بالاستقلالية، وأن تكون غرف الأسرة مفصولة عن غرف الضيوف. كما أن نوافذها مفتوحة باتجاه الشمال حيث يهب منها الهواء البارد، أو من جهة الشرق حتى يدخل منها نور الشمس. وتكونت البيوت في ذلك الزمان من دورين، وتميزت بحجمها، وتعدد غرفها والتي كان يستخدم بعضها لتخزين الأغذية والتمور والجصة، كما كان يتوفر في بعض البيوت آبار، ومنها ما خصصت الجزء الخارجي منها للماشية، ومنها مجلس خاص بالرجل يسمى (القهوة) وهو مكان يستقبل به ضيوفه، أما المرأة فكانت مسؤولة عن بقية أرجاء المنزل.
ومن المكونات الأساسية للبناء في الدولة السعودية الأولى، (الطين، واللبن، والقش، والحجارة، والأخشاب، والأثل، وجذوع النخل) ويشرف على البناء (الاستاد) اشتقاقًا من الأستاذ، وكل استاد حسب عمله فنجد (استاد البناء، واستاد النقوش، واستاد الطين). وفي ذلك الوقت بدأت ملامح الدولة تتشكل بوضوح حسب ما يذكره الدكتور العبد اللطيف، ويظهر ذلك من خلال وجود المباني العامة، مثل: بيت المال، والأوقاف، وسبالة موضي، وقصر للضيافة ملصق به حمام بخار، وذلك يعطي نموذجًا للرفاهية والحياة التي كان يعيشها المجتمع في عصر الدولة السعودية الأولى.
وتحتضن الدرعية على ترابها اليوم معالم أثرية عريقة مثل: حي غصيبة التاريخي، ومنطقة سمحان، و»حي الطريف» الذي وُصف بأنه من أكبر الأحياء الطينية في العالم وتم تسجيله في قائمة التراث الإنساني في منظمة اليونسكو، ومنطقة البجيري ووادي حنيفة في الدرعية، إضافة إلى أن النظام المالي للدولة وصف بأنه من الأنظمة المتميزة من حيث الموازنة بين الموارد والمصروفات. مجتمع متنوع ومتجانس كانت منطقة وسط الجزيرة العربية منعزلة، ومن أقل المناطق اختلاطًا، وبعيدة عن أماكن الامتزاج السكاني، لذا لم يتأثر سكانها المحليون بالعناصر الأخرى، حيث ينتمون إلى قبائل عربية أصيلة، وكانت من سماتهم الانتماء للمكان وللأسرة وللقبيلة، وتحديدًا في الزواج ومزاولة الحرف وبعض الأعمال.
ولسكان مجتمع التأسيس طرق مختلفة للمعيشة ويعود ذلك لكونهم منقسمين إلى قسمين: الحاضرة - وهم سكان البلدات والقرى-، والقبائل – من يقطنون في الصحراء ويتنقلون حسب ما يجدون الماء والعشب والكلأ-. وخلال فترة الدولة السعودية الأولى وفد إلى مجتمع الدرعية التجار وطلبة العلم وأصبحوا جزءًا منها وكانوا مـن طبقات مختلفة، ومع مرور الوقت ازداد عدد سكان الدرعية ازديادًا كبيرًا، وتوسعت رقعة مساحتها، وأصبحت مقصد طلب العلم، وقبلة أرباب التجارة، وموئل الباحثين عن الرزق.
يقول الدكتور العبداللطيف: أحيطت مدينة الدرعية بسور بلغ طوله 13 كيلومترًا، وقطنها عددٌ كبير من السكان، وأمّها الناس من مختلف البقاع، لما تمتعت به المدينة من حركة تجارية كبيرة، حيث ضمت سوقًا مزدهرًا سمي بـ(سوق الموسم) يقع بين حي الطريف وحي البجيري. وكانت مدينة الدرعية منفتحة على الجميع، حيث كانت سياستها قائمة على الترحيب بالآخر، فكانت قبلة للناس يأتون إليها من جميع أنحاء الجزيرة العربية ومن خارج الجزيرة العربية ليسكنوا فيها، هذا الأمر كوّن مجتمعًا متنوعًا ومتجانسًا، واستمر ذلك حتى في عصرنا الحالي. وتحسنت جودة حياة المجتمع في الدرعية بعهد الدولة السعودية الأولى، ونعم أهلها بخيرات ورفاهية عالية، وكان الكثير من مواطنيها يعملون في مهنة التجارة إلى جانب الزراعة والفلاحة، وتعددت مصادر الدخل وثروات سكانها. ومن دلائل تحسن جودة الحياة فيها في عهد الدولة السعودية الأولى بحسب الدكتور العبداللطيف؛ جودة الخامات والأغذية المتنوعة التي توفرت في «سوق الموسم»، حيث كانت تأتي إليها الأرزاق من جميع أنحاء الجزيرة العربية ومن خارجها، وكانت أسواق الموسم كما كانت تعرف آنذاك جاذبًا لكثير من التجار. وكانت أسواقها عبارة عن دكاكين مصطفة في الشوارع الواسعة، تباع فيها السيوف المحلاة بالذهب، والأقمشة بجميع أنواعها، وخصص سوق للنساء، وسوق آخر للصاغة، وسوق خاص بالإبل..إلخ.
ومن مظاهر جودة الحياة في تلك الحقبة هو «سبالة موضي» وهو وقف شهير في حي الطريف أسسه الإمام عبد العزيز بن محمد، وهو عبارة عن مبنى من طابقين يقوم مقام المسكن المجاني، ينزل فيه التجار والزوار القادمون إلى مدينة الدرعية والمحتاجون، وطلاب العلم، وتضم غرفًا للتدريس، وللنوم، والطعام، وللتخزين، وإسطبلات لإيواء دواب قوافل التجار ومسجدًا. ويروي الدكتور العبداللطيف بأن الإمام عبدالعزيز بن محمد أمر بوضع (حمى للإبل) قريبة من الدرعية، يوضع بها الإبل التائهة بالصحراء، فكان كل من يجد إبلًا ضائعة، يأتي بها إلى الدرعية ويسلمها للشخص المؤتمن عليها في الحمى، ليتمكن من يفقد إبله من البحث عنها هناك، وإن لم يبحث عنها أحد، تبقى في الحمى وتتكاثر، وتخدم المجتمع بشكل عام.
الدرعية .. منارة العلم والثقافة والفنون
أسس الإمام محمد بن سعود مسارًا جديدًا في تاريخ المنطقة مبنيًا على رؤية مستقبلية، توحد الناس وتنشر الثقافة والعلوم وتحقق الازدهار. وعودة لجذور ذلك في التاريخ، اهتم أئمة الدرعية بدعم العلم والتعليم والثقافة، ولم ينقطعوا عن مجالسها ودروسها والتي كانت تبدأ من طلوع الشمس، وإذا فرغ الدرس في الظهيرة وبعد صلاة الظهر، فتحوا مجالس قصورهم ليكمل جمع عظيم من أهل الدرعية دروسهم. ومن نماذج دعم واهتمام الدولة بالجانب التعليمي في تلك الحقبة، حي البجيري –رغم أنه لم يكن حيًّا بتلك الضخامة إلا أنه ضم 30 مدرسة، ويعد ذلك عددًا هائلًا في تلك الفترة، كما ضم مبنىً تعليميًا، يستوعب 200 من طلبة العلم، يشمل إسكانهم ومأكلهم ومشربهم، إضافة إلى حلقات العلم التي كانت تعقد في المساجد، ووجود العلماء، ما جعلها مقصدًا لطالبي العلم من داخل وخارج الجزيرة العربية. وكان ذلك أشبه بالجامعات في العصر الحديث.
وتميز التعليم في تلك الحقبة بالتطور والتقدم، ومن نماذج دقة واهتمام الدولة بالتعليم والفنون المتنوعة، هو حرص الإمام عبدالعزيز بن محمد على المرور بجميع الحلقات بعد صلاة الفجر ليشجع ويحمس الطلاب، وكان يكافئهم على اجتهادهم وحسن خطوطهم. ومن ملامح الثقافة في الدرعية كما يذكر الدكتور العبد اللطيف ظهور مدرسة للخط والنسخ والتي خرّجت عددًا من النساخ والخطاطين. وكان للنساء حلقات تعليم في البيوت، وقد برعن في مجال الخط، ومنهن من خطت المصحف، أو آيات من القرآن الكريم.
ومن صور الثقافة في عصر الدولة السعودية الأولى «الراوي» حيث ترتبط الرواية بتاريخ وثقافة الجزيرة العربية. حيث توارثتها الأجيال من أفواه الرواة، ويتمتع الراوي بالمهارة اللغوية والإلقائية، وبخيال واسع وأسلوب جذاب، وكان يعد ذلك من وسائل الترفيه والتسلية. وغالبًا ما يجلس الراوي وسط المجلس الخاص بالحاكم أو أحد الأعيان، أو وسط ساحة البلدة أو في البادية، أما قصص النساء فتكون في فناء البيت أو في ساحات المزارع أو الصحراء الفسيحة.
وتميزت الدرعية بثقافة خاصة بها، ومنها «نخوة العوجا» وهو النداء الذي يبث الحماس والفخر وروح الانتماء. وكان أهل وسط الجزيرة العربية عمومًا يعدون الفن وسيلة للتعبير عما يدور في خلدهم، واستخدموا للتعبير عن ذلك آلة الطبل في الحرب، واحتفالاتهم وفي رقصاتهم، مثل: العرضة والسامري، مستخدمين نوعين من الطبول: «التخمير» و»التثليث» وجميعها مصنوعة من الأشجار ومغطى بالجلود. وعرف عن فنون الصحراء «الهجيني» وهو غناء من دون إيقاعات موسيقية، كانت تغنى على ظهور الإبل للتخفيف من عناء التنقل في الصحراء، وكانت تلحن للتعبير عن المشاعر، أو عن مواقف مروا بها.