د. غالب محمد طه
أكثر من ثلاثمائة عام هي عمر الرحلة الميمونة بدءاً من تأسيس المملكة العربية السعودية مروراً لعصر الرؤية والوطن الطموح كانت القصة فيها قد كتبت بالنقش على الصخر والصبر والتجلد والمخيلة المبدعة.
فعبقرية المؤسس الأول نجحت في العبور بالبلاد من الانقسامات والفوضى والتفتيت ليمسك بزمام الوحدة ونشر ثقافتها وتعزيز التواصل بين أفراد مجتمعها، وقد اتضحت بعدها عبقرية الملك عبد العزيز رحمه الله الذي تمت على يديه إعادة ترتيب النسخة الموحدة والقوية للمملكة في بدايات ثلاثينيات القرن الماضي، لتبدأ بعدها المملكة العربية مسيرتها القاصدة إلى التطور والنماء والاستدامة.
ولعل ما ميز المملكة منذ إنشائها أن لكل ملك بصمته الظاهرة في مسيرة التنمية فالملك عبد العزيز رحمه الله تعالى يكفيه أنه قد وضع أسس المملكة العربية السعودية بنظامها الإداري والسياسي والاقتصادي ووضعها على مسارها الحديث. ولعل جامعة الملك سعود «والتي تعتبر الأولى في جزيرة العرب تعتبر من أميز البصمات التي وضعها الملك سعود رحمه الله، وفي نفس الاتجاه سار خلفه الملك فيصل رحمه الله الذي اهتم أيضاً بالتعليم حيث أولاه عناية خاصة وبرزت رؤيته العميقة ونظرته الثاقبة في تشجيعه لتعليم البنات حيث نرى اليوم نتاج ثمار زرعه الطيب في تعليم البنات اللائي أصبحن في كل مكان وشأن ويكفيهن فخراً أن أصبحت (يانة برناوي،) أول امرأة سعودية وعربية تسافر إلى الفضاء.
أما الملك خالد بن عبد العزيز رحمه الله نكتفي بالإشارة لأبرز إنجازاته في مجال الصناعة أن عهده شهد إنشاء صوامع الحبوب ومطاحن الدقيق، حيث فاق إنتاج المملكة من القمح استهلاكها.
وقد بدأت المملكة في طريق التطور اجتماعياً وسياسياً وبروزها كقوة سياسية واقتصادية في عهد الملك فهد رحمه الله والذي نال شرف لقب «خادم الحرمين الشريفين» الحرمين الشريفين ياالله، ويا له من شرف ذلك الذي توارثه عنه بقية ملوك المملكة.
أما الملك عبدالله رحمه الله فقد شهدت المملكة العربية السعودية في عهده تسارعاً تنموياً كبيراً في شتى المجالات وشهدت، قطاعات كالتعليم، والصحة، والإسكان، والطرق، والبيئة، والمياه، والكهرباء، تطويراً كبيراً.
أما خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود فيكفي نضارة عهده تلك الرؤية العملاقة التي أطلقت لعام2030 المرتكزة على ثلاثة محاور أساسية: مجتمع حيوي، وطن طموح، اقتصاد مزدهر، ولا أبلغ دليلاً منها كوضع للمملكة بوأها مكانتها الطبيعية والطليعية على رأس الدول العشرين في العالم.
وهل تكفي الإشارات التي سقناها للملوك في تبيان إنجازاتهم على كل الأصعدة الداخلية منها أو على المستويين العربي أو الإسلامي أو الدولي؟
سنترك هذا الأمر لكتّاب التاريخ لفرد تلك الصفحات الباهرة من حيواتهم ففيها العبرة والدروس العميقة.
إن الاحتفال بيوم التأسيس في حد ذاته فرصة لاستذكار ذلك التاريخ العتيد من التضحية والبذل ومعرفة قيمة الوطن واستعادة تلك الصور الباهرة التي سجلها رجالٌ عرفوا قيمة الوطن وعملوا على توحيده وتقويته ونمائه.
ويوم التأسيس يومٌ للاعتزاز بالجذور الراسخة للدولة السعودية وفرصة لتجديد الاعتزاز الوثيق بين المواطنين وقيادتهم وفخرٌ بأياديهم البيضاء القوية في الصمود والدفاع عن المملكة أمام الأعداء وبتلك القيم السمحة التي أرساها الملك عبد العزيز والاعتزاز بإنجازات خلفه الصالح من أبنائه الملوك في البناء والتعمير والوحدة.
وفي هذا اليوم يحق لكل مواطن ومقيم في هذه الدولة أن يحتفل بيوم تأسيسها فالكل يشعر بقيمة الوطن ونعمة الاستقرار والنماء والجميع يستشعر نعمة تواجده في أرض الحرمين الشريفين.
والتطورات اللاحقة التي بدأها الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان تقف شاهداً على امتداد الدولة السعودية الثالثة كقوة إقليمية وعالمية، أسهمت بفاعلية في السلام والاستقرار الإقليمي والدولي، وما بصمات ولي العهد وفكره سوى امتدادٌ لتلك العبقرية الأولى للمملكة فها هي تمد يديها دون منٍّ أو أذى نصرةً للشعوب العربية والإسلامية بل وكل العالم لتخفيف آثار العدوان أو المجاعات التي تضرب بالمنطقة ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية يقف شاهداً على قيمة الإخاء والوفاء والتعاون.
فالمملكة العربية السعودية، اليوم تحت قيادتها الرشيدة أكثر قدرة على التبصر وقراءة المستقبل لما تحمله من قيم متراكمة وحكم متوارثة وبصيرة نافذة ثاقبة. ولعل المملكة قد استبصرت مبكراً أهمية دورها في التبليغ ونشر الدعوة كأرض تحوي الحرمين الشريفين وأهمية مرحلة الصراع بين الشرق والغرب والتي يتجلى في استخدام كل الأدوات الاستراتيجية للدول، حيث تمتلك السعودية كل الأدوات الاستراتيجية (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية) وفي أخطر الملفات بما في ذلك حرب الطاقة والغذاء وغير ذلك فالمملكة العربية السعودية أضحت من ضمن هذه القوى كقوة سياسية لها وزنها الدولي أو كقوة اقتصادية من ضمن القوى العشرين عالمياً أو كقوة دينية ومكانتها في العالمين العربي والإسلامي، ولها خصائصها التاريخية والثقافية والاقتصادية وقد جاءت رؤية 2030 لتشكل ضربة البداية لتغيير موازين القوى دولياً، وإقليمياً ونهاية السيطرة المالية والسياسية لصالح البعض، وهو وضع من الخطورة بمكان نجحت من خلاله السعودية من الانتباه له مبكراً من خلال رؤيتها الاستراتيجية لتجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الدين والعلم، فها هي اليوم بفعل تخطيطها الدقيق ورؤيتها الثاقبة تقف على قمة العالم تنميةً واستقراراً.
ويوم التأسيس مناسبة وطنية متجددة للاعتزاز بجذور الدولة السعودية الراسخة صاحبة الهوية الإسلامية المنطلقة من العقيدة الإسلامية التي قامت عليها المملكة العربية السعودية والمتمثلة في نشر الإسلام والاهتمام به ورعاية الحرمين الشريفين والمشاعر المقدسة وصبغ هوية الوطن وتعليمه وأسلوب حياته بما هو متفق تماماً مع الدين الإسلامي القويم، ولها في الأمر مواقف مشهودة وجهود مبذولة فما العدوان والحرب على غزة ببعيد عن الأذهان حيث تقود السعودية جهوداً مضنية لوقف إطلاق النار وحلحلة الملفات الفلسطينية العالقة، وها هو السودان بكل تعقيداته وحربه وقضاياه يقف في قمة اهتمامها بجانب جهودها في سبيل وقف الحرب حيث أسست منبراً تفاوضياً لحل المشكل، هذه الجهود التي تقودها المملكة تأتي انطلاقاً من دورها وقيادتها للعالم الإسلامي، فهي تُمثّل العمق الإسلامي والشريك العربي الذي يضع على عاتقه معالجة القضايا العربية والإسلامية.
وبعد ثلاثمائة عام نقف سوياً مع يوم التأسيس شاهدين على هذه النهضة الحضارية الباذخة، والإنجازات التنموية الشاملة التي حققتها المملكة العربية السعودية، بل سنكون جزءاً من هذه المرحلة المُلهمة والتي ستكتب في الغد كتاريخ سنفخر أننا كنا ذات يوم شهوداً على مجمل أحداثه الخلاقة.
وأختم بأبيات الشاعر حمود بن عبد الله بن محمد الغانم:
يا سائلاً عن موطني وبلادي
ومفتشاً عن موطن الأجداد
وطني به البيت الحرام وطيبة
وبه رسول الحق خير منادي
وطني به الشرع المطهر حاكم
بالحق ينهي ثورة الأحقاد
وطني عزيز فيه كل محبة
تعلو وتسمو فوق كل سواد
وطني يسير الخير في أرجائه
ويعم رغم براثن الحساد
قوم بغوا وتجبروا في أرضنا
ورموا بسهم الموت قلب بلادي
لكنها رغم المصاعب هامة
تعلو بدعوة معشر العباد
مستمسكين بدينهم وتوجهوا
لله ذي الإكرام والأمجاد
أن يحفظ الشعب الكريم وأرضه
ويديم أمن الدين والأجساد
ويرد كيد الكائدين بنحرهم
ويعيد من ضلوا لنهج الهادي