د.محمد بن عبدالرحمن البشر
منذ أن حدث ما حدث في السابع من أكتوبر، أخذت التصريحات تنطلق من كل حدب وصوب، وأخذت الزيارات تتوالى وتترى، مع مرارة ألم داخلي يظهر بين ثنايا الكلام يعبر عن المكنون، ثم يبوح اللسان بما ضبطه الجنان، فتنطلق الكلمات كالسهام، دون تقيد بالمكانة التي تستوجب انتقاء الكلمات التي عادة ما يتوارى خلفها السياسي، حتى يجلب بعضاً من التعاطف مع موقفه، أوحتى لا يلام على قوله، فكل ما يقوله يتم تداوله، وتسجيله في سجل التاريخ.
كانت الدول الفاعلة المؤتمرة بأمر فئة نافذة، والدول التابعة التي بغيرها عند الملمات لائذة، تدعو إسرائيل إلى عدم اجتياح بري، خشية على المدنيين، المكتظة بهم بقعة صغيرة، حتى إن نصيب المرء فيها من الأرض الأقل في العالم، لا يدخلها الماء والغذاء والدواء، إلا بقدر محدود ومحسوب، وبعد موافقة أطراف معينة، ولو استطاعوا أن يقننوا الهواء الداخل إليها لفعلوا، وأعدت إسرائيل العدة للاجتياح على مرأى ومسمع من القوم، وبقي السلاح يتدفق، والقرارات الدولية تحجب، لكن التصريحات لحماية المدنيين تزيد نبرتها، وتعلو أصواتها، لكن تحت هدير الطائرات، ورمي المدافع، وترديد مقولة مكررة وهي تلك العبارة المشهورة، من حق إسرائيل حماية نفسها، ولهذا السبب يتم تزويدها بالسلاح، ويصاحب هذه الأقوال قتل للمدنيين بلا حدود ولا قيود، ويزيد تكرار جملتين من حق إسرائيل حماية نفسها، وعليها تجنب قتل المدنيين قدر المستطاع، وعدد القتلى من المدنيين يزداد، دون قرار فاعل يكبح قتل العباد.
تم الاجتياح بدءاً بالشمال من قطاع غزة، وكان حصيلة القتل اليومي من المدنيين كبيراً، ولم تتغير العبارات، ولم تتحسن المواقف، وسارت الأمور على هذا المنوال بضعة أيام على مرأى ممن لهم حول وقوة، وأولئك الذين لا حول لهم ولا قوة، وتزيد الحصيلة من آلاف المحدودة إلى آلاف معدودة، تزيد بوتيرة متسارعة، والعالم بين أمرين محترق يرى الظلم وليس بيده ردعه، وآخر موافق عليه وظاهره غير باطنه، يتوارى بين الأقوال، ويترك العنان لعل المهمة تنتهي بأسرع مما كان.
بعد الشمال، أخذت التصريحات تنهال، مطالبة التوقف عند هذا الحد، وعدم التوغل إلى الوسط، لكن هيهات، فالوسط محبوب، وإليه تهفو القلوب، استمر الحديث عن الممرات الآمنة، وحماية المدنيين، وحق الدفاع عن النفس، وتم تهجير سكان الشمال إلى الجنوب، مكونين أكواما بشرية، وقلت المساعدات، والسماح بدخولها، والشتاء قارص، والغذاء شحيح، ولا أجور، ولا دثور، والأمور تمور، والقنابل والصواريخ تنهال، ومع هذا فالتزويد بالسلاح مستمر، وحجب القرارات متواصل، وأما تطبيقها لو صدرت، فهذا يحتاج إلى معجزة.
واتخذت جنوب أفريقيا قراراً بالتظلم لدى محكمة العدل الدولية، وصدر القرار بالإجماع سوى قاضية أوغندية، مع أن القاضي الإسرائيلي أقر القرار، ومع هذا استمرت النغمة كما هي، والسيد المطاع على الهرم الإسرائيلي، يقول لن نتوقف حتى إنهاء المهمة، مع أن أرواحا تزهق من المدنيين، ومحتجزون يموتون بسلاح من يدعون أنهم جاءوا لإطلاق سراحهم، وهكذا هي الحال، ولو أرادت بعض القوى لسمحت بقرار يصدر من مجلس الأمن بالمرور، يجعل السيد المطاع يبطئ من هرولته، وفي ظني أنه مخطئ من ظن أن تلك القوى تحركها مصالح دولها، لكن في رأيي أن الذي يحركها تلك الفئة الفاعلة بغض النظر عن مصلحة البلاد، وإنما مصلحة تلك الفئة هي الأساس في اتخاذ أي قرار يتعلق بالشرق الأوسط، بل والعالم بأكمله.
أكتب هذا المقال وآخر نقطة في أقصى الجنوب وهي رفح، تتعرض لوابل من القنابل والمسيرات والصواريخ، لكن اقتحامها لم يتم بعد، والاستعدادات جارية، والجمل الثلاث يكثر تردادها ممرات آمنة للمدنيين، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع مراعاة القانون الدولي، وإدخال المساعدات، لكن لا شيء جديدا يحدث حتى تحين ساعة الصفر الذي حدده الآمر الناهي، وبعد ذلك سيزيد عدد القتلى، وسيظهر المهجرون، لكن السؤال إلى أين، فلم يعد هناك مكان آمن يمكن لأم ورضيعها اللجوء إليه، ولا مكان لشيخ أو عجوز يحتمي به، ولا لمريض أرقه الألم مستشفى يتطبب فيه، فإلى الله المفر، ومع ذلك فإن الحديث عن الممرات الآمنة سيستمر، وهم يعلمون يقيناً ألا ممرات وضعت من قبل، ولا هي موجودة الآن، ولن تكون موجودة مستقبلاً، ولكنها كلمة تقال، كما يقول المتنبي.
يبقى أن ننوه إلى حقيقة يعلمها المطلع، ويتحدث بها المنصف، وهي أن موقف المملكة العربية السعودية، هو الموقف الجاد الذي يرفض الاحتلال، والتهجير داخل غزة وخارجها، ويؤكد على وجوب قيام دولة فلسطينية ذات سيادة، وقابلة للحياة، وعاصمتها القدس الشرقية، طبقاً للقانون الدولي، والاتفاقات المبرمة، والمواثيق الدولية، والعدالة الإنسانية، كما يؤكد أن لا علاقات دبلوماسية محتملة دون قيام دولة فلسطينية، وهذا الموقف هو الأكثر فاعلية لجعل الإدارة الإسرائيلية، تفكر ملياً في مراجعة مواقفها، لأن العالم وإسرائيل يعلمون أن المملكة هي الدولة الأكثر تأثيراً في الشرق الأوسط، ومن أكثر الدول تأثيراً على المستوى العالمي.