د.عبدالله بن موسى الطاير
يقول الذين يحمّلون الغرب الليبرو ديموقراطي المآسي التي حلت بالبشرية منذ نهاية الحرب الثانية، إن هذا الغرب اخترع لنا أفكاراً نختلف عليها وأسلحة نتقاتل بها، وناموا ملء جفونهم في دفء أوطانهم. ومن الأفكار المجردة التي دقوا بها أسافين العلاقة بين السلطات ورعاياها «حرية التعبير»، التي صدروها مجردة، في الوقت الذي قيدوها في الاستهلاك المحلي، من خلال حراس بوابات يتمتعون بقدرة على تمييز ما ينشر ولا ينشر، ويتلمسون مواقف الأجهزة التنفيذية، ويرون الخطوط الحمراء بوضوح، بينما تُرك الصحافيون هملاً في بلاد العالم الثالث، متوجسين تجاه أي خطوة تتخذها الحكومات لضبط حرية التعبير، فاشتعلت المواجهات السلمية والعنيفة بين السلطات والمواطنين.
حارس البوابة استعارة مجازية للشخص الذي يتحكم في تدفق المعلومات إلى الجمهور، مثله مثل حارس المرمى في لعبة كرة القدم، فهو يقرر السماح والحجب. قرارات النشر والمنع يتخذها المراسلون والمحررون والمنتجون بشأن الأخبار والمحتوى بعمومه.
ما يمايز بين منتج الأفكار ومستهلكها أن الأول لديه محددات واضحة في ذهنه، ولا يخرج عنها عقيدة، إلا فيما ندر. فالعقيدة المكونة من الليبرالية، الديموقراطية، العرق الأبيض، المسيحية، تؤطر المسموح والممنوع في وسائل الإعلام الغربي. يأتي لاحقاً لها تعليمات الأمن الوطني التي تبلغ لمنع النشر بداية أو لإيقاف قصة خبرية أو مادة إعلامية قبل نشرها، ويحدث ذلك في كبريات شبكات الإعلام الجماهيري المقروءة والمسموعة، والمسموعة المرئية.
ولأن الديموقراطية لا تخاف من المبادرة، بل تستوعب المستجدات، وتطوعها، فقد أضفت على الإعلام الجديد من روحها إذ قالت: «يمكن لأي شخص نشر المحتوى عبر الإنترنت، وتجاوز حراس البوابات التقليديين مثل المحررين أو الناشرين، من أجل السماح بسماع أصوات ووجهات نظر متنوعة، من أجل تحدي الروايات الراسخة والسائدة». وهنا قفز تكر كارلسون في عربة الديموقراطية ليصدمها بحوار مع الرئيس بوتين غير المرحب به في الإعلام الغربي عموماً. وربما يدفع البعض بأن «موت» حارس البوابة سمح بهذا الحوار الصادم للمؤسسة السياسية الغربية، مما جعل البيت الأبيض يكتفي بالتحذير من مشاهدة الحوار، فإن كان ولابد من المشاهدة فلا تصدقوا الرئيس بوتين، وبرر ذلك بالكثير من الموبقات التي قذف بها الضيف. ومعلوم بالضرورة أن الناس يفعلون عكس ما تمليه السلطات، ومن كان غافلاً عن الحوار سيتنبه ويبحث عنه.
ظهور منصات التواصل الاجتماعي ذات الحد الأدنى من الإشراف على المحتوى خلق مساحات لوجهات النظر التي لا يُسمح بها في وسائل الإعلام التقليدية. الانقسام الحزبي الحاد بين «دولتي» الجمهوريين، والديموقراطيين، جعل اليمين الأمريكي أقرب ما يكون للعدو الأول للإدارة الديموقراطية. لا أحد يجادل في أن قرار استضافة الرئيس بوتين ناجم عن مصلحة سياسية للمحافظين من أتباع الحزب الجمهوري الترامبيين، والمحاور في مقدمتهم.
إن منظومة حراسة البوابة التقليدية تتهاوى في عصر الخوارزميات، والمنصات، والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، فقناعة ملاك تلك الشبكات سواء إيلون ماسك، مارك زوكربيرغ، أو إيفان شبيغل تحدد ما يصل للناس وما لا يصل. صحيح أنهم في نهاية المطاف أمريكيون، أفراداً وشركات، إلا أن التدخل الحكومي المباشر سيفجر فضائح هو في غنى عنها في الوقت الراهن، ولذلك اكتفت السلطة بالتحذير.
لا شك أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت مشهداً أكثر تعقيداً للتحكم في المعلومات، وأن هذا الحوار الذي اجتاح البوابة وحارسها سيكون له تبعات على حرية التعبير في الكتلة الغربية، ومع يقيني أن عودة ترامب للسلطة ستزيد الطين بلة، وربما نرى تكر كارلسون في حوار مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، إلا أن المؤسسة لن تصبر كثيراً قبل لجم حرية التعبير التي لا تخدم مصالحها.
ما قيل في لغة جسد الرئيس بوتين ربما أكثر مما ورد على لسانه. ظهر ذلك في تعبيرات الوجه، مع تفسيرات تتراوح بين الثقة والعدوان إلى القلق والغضب، لكنه أظهر أن صحته كانت قوية، و»لم يظهر بوتين أي علامات على انخفاض مستويات الطاقة خلال هذه المحادثة التي استمرت أكثر من ساعتين». بينما أشار بعض الخبراء الغربيون إلى «قدميه المرتعشتين ويديه المضطربتين ووضعيته المترهلة».
وأياً كانت المعاني المحكية أو المشاهدة، فقد سجل الرئيس بوتين بهذه المقابلة هدفاً مزدوجاً مع مضيفه اليميني المحافظ لصالح طرف أمريكي غربي على آخر، وسوف يفتح هذا الحوار مجالاً واسعاً للتفكير في المشهد بمدخلات مختلفة عما ساقته الدعاية الغربية خلال السنتين الماضيتين. وإنا لمنتظرون رد فعل الديموقراطيين داخل أمريكا ومن خلال تحالفاتهم في الكتلة الليبرو ديموقراطية.