عبدالرحمن الحبيب
نخطئ كثيراً عندما نعتقد أن الارتباط الزمني بين بين حالتين يعني أن إحداهما سبب للأخرى.. نقع في ذلك في كثير من جوانب الحياة، في السياسة والاقتصاد والصحة ..إلخ. هل تذكرون طائر اللقلق المضحك بأفلام الكرتون الذي يجلب الأطفال المواليد يحملهم بكيس قماش بمنقاره الضخم؟ هل تصدقون أن دراسة وجدت علاقة إحصائية وثيقة بين معدل مواليد البشر وعدد اللقالق بألمانيا من عام 1965 إلى 1987، كلاهما في انخفاض، وكان المنحنى الإحصائي بينهما متطابقاً تقريباً. فهل هذا يعني أن اللقلق يجلب المواليد كما تقول الخرافة الأوروبية القديمة؟ كلا، طبعاً، فهي مجرد مصادفة بحتة (Dobelli, 2013). كثير من الارتباطات الإحصائية الوثيقة بين عاملين أو أكثر هي إما صدفة (تزامنية أو مكانية)، أو ارتباطها بعامل آخر مشترك، أو أن بينها ارتباطاً أضعف كثيراً مما يبدو.
في كتاب «الكلب الذي يبيض» لمؤلفيه البروفيسورين الألمانيين بورنهولد ودوبن: أظهرت دراسة بحثية بإحدى المدن أنه في كل حريق كلما زاد عدد الإطفائيين زاد ضرر الحريق. عُمدة المدينة الذي لا يخلو من الغباء، فرض تجميداً فورياً للتوظيف وخفض ميزانية مكافحة الحرائق. يقول المؤلفان إن السبب ليس عدد الإطفائيين بل كلما زادت الحرائق زاد عدد الإطفائيين والعكس ليس صحيحاً، (Dobelli, 2013).
مثال آخر أقل غباءً، وجد باحثو الصحة أن بقاء المرضى لفترة طويلة بالمستشفى يؤثر عكسياً على صحتهم. هذا له وقع الموسيقى على شركات التأمين الصحي، لكن اتضح أن المرضى الذين يغادرون المستشفى بسرعة هم أصح من الذين يجب بقاؤهم، حسب ما نقله رولف دوبلي (Dobelli, 2013).
الالتباس في العلاقة السببية كثيراً ما يضللنا خاصة إذا اعتدنا تفسيرات مسبقة جاهزة أو اكتفينا بالربط المباشر. يقول الفيلسوف ديفيد هيوم: حين نرى مُزارعة تغذي الدجاج يومياً نقول هي امرأة تحب الحيوانات. لكن الواقعة ستدحض حين تقوم لاحقاً بذبح الدجاجة. فالخاص الذي تكرر هنا لا يمكن أن يكون عاماً. والأمثلة على تخالف الاختبار الحسي التجريبي كثيرة: التفاحة التي نراها حمراء تحت الضوء وسوداء في الظلمة، قضبان سكة الحديد التي نراها خطاً واحداً من على الطائرة وبالاقتراب نراها خطين، العصا التي نراها مكسورة إذا كان نصفها بالماء نراها سليمة مستقيمة في الأرض..
الاختبارات الحسية المادية هي أساس الدراسات العلمية التي تعد مفتاح التقدم البشري لكن تفسير نتائجها يؤثر في المفتاح وقد يتحول إلى قفل.. فكثيراً ما نجد أننا أمام احتمالية استنتاجات مختلفة لنفس النتيجة. خذ مثالاً، لوحظ زيادة في حوادث أحد الطرق نتيجة السرعة وتحدث عنها الإعلام بطريقة مؤثرة مما حدا بإدارة المرور أن تضع كاميرا مراقبة على هذا الطريق. بعد ذلك انخفضت الحوادث بنسبة كبيرة. هل ذلك يرجع لتأثير الإعلام (عزوف السائقين عن الطريق أو انخفاض السرعة)، أم لتأثير الرادع للمخالفة المرورية، أم لسبب آخر (فتح طريق فرعي، وضع مطبات صناعية)؟
البحث العلمي قائم على رصد المشاهدات الظاهرة وترتيبها وفرزها بطريقة منهجية موضوعية، وأغلب توجهات البحث العلمي هي لاكتشاف أسباب وجود الأنماط التي نشاهدها في الطبيعة. لكننا كثيراً ما نقع في فخ العلاقة السببية الظاهرة ولا ننتبه للسبب الخفي كما ذكر سابقاً (الحالة النفسية في سرعة القيادة، الحالة الصحية في مغادرة المستشفى، الوضع المادي لموظفي الشركات الرابحة..)، فالارتباط الظاهري بين حالتين لا يعني بالضرورة أن بينهما علاقة سببية. هناك مبدأ في الفلسفة العلمية بأن «الارتباط لا يقتضي السببية» (Correlation does not imply causation). أحد الأمثلة ما اعتقده علماء البيئة سابقاً أن الطحالب السامة تقتل الأسماك في مصبات الأنهار، ولكن اتضح لاحقاً أن الطحالب نمت حيث مات السمك، فعُرف أن الطحالب لم تسبب موت السمك (Borsuk, et al. 2003).
ليس القصد التشكيك في البحث العلمي، لكن يجب ألا يكون هناك أي عمل علمي أو موضوعي فوق التحليل النقدي. وطالما أن التوصيات التي تخرج بها الدراسات العلمية قد تتشكل لاحقاً كقرارات تمس جميع مفاصل حياتنا، لذا فهي تشكل خطورة إذا أخذت على أنها مسلمات يقينية دون تعرضها للمساءلة الموضوعية (العقلانية والمنطقية) المستندة على أسس علمية تلتزم بالشروط الواجب توفرها للاستنتاج الصحيح. تلك المساءلة تتطلب توفر خلفية علمية وفلسفية تؤهل المتسائل (خاصة من أصحاب القرار) لتفسير النتائج ومحاكمة الاستنتاجات.
إذا كان ينبغي التمييز بين العلم الأصيل والعلم الزائف، فإن التمييز بين النظرية العلمية والنظرية التي لم تثبت علمياً لا يعني بالضرورة أن الأخيرة هي خاطئة، بل ربما لم تكتمل علمياً (شروطها المنهجية ناقصة)، أو هي مقدمة وتهيئة لمزيد من الدراسات العلمية. مثال ذلك الأبحاث المعتمدة على الاستطلاعات والاستبيانات، فكثيراً ما يتناولها الإعلام على أن نتائجها علمية نهائية، ويخرج القائمون عليها باستنتاجات يعتبرونها علمية، لكنها في الغالب هي عملية رصد الظواهر تهيئ الوضع لطرح فرضيات تختبرها الدراسات العلمية وتقيمها. لكن الإعلام باستعجاله وإثارته التشويقية يشوهها، وقد يجرف معه حتى القائمين عليها.