أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
إضافة إلى كل ذلك، ستشهد التطبيقات الفيزيوكونية المعاصرة كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق طفرات نوعية مستقبلية هائلة في مجال القفزات الكمومية والخندقة الكمية والانتقال معلوماتياً للمادة والطاقة عن بعد وسفر البشر عبر الزمن ربما عن طريق توظيف خاصية التشابك الكمومي الملحوظة تجريبياً بين الدقائق النووية للبنى الذرية. وسوف تنجلي قريباً أزمة ثنائية الجسيم -الموجة للإلكترون والفوتون التي تجلت دونما أدنى شك في العبور الإلكتروني والفوتونى أثناء آلاف الفحوصات التي تمت باستخدام تجربة الثقبين العالمية المعروفة أو بواسطة التجربة التي حركت فيها الإلكترونات في مسارات انشطارية للطيف كريستالياً والتي تم فيها تحديد مدى تأثير حاضر واحد أو مجموعة من الإلكترونات أو الفوتونات على ماضٍ آخر منها أو مجموعة أخرى مناظرة لها ذرياً.
من المهم الإشارة هنا إلى أن علماء الفيزياء على وجه الخصوص منشغلون دون غيرهم في الوقت الراهن بقفزاتهم النوعية المستقبلية الطلائعية الرائدة التي من أهمها تطوير المعرفة الفيزيوكونية بأمواج الجاذبية التي نتجت عن تصادم ثقبين أسودين وتوظيف تلك المعرفة في الكشف عن لحظة حدوث البج بانج أو الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون. وسوف تؤدي هذه المعرفة بعد دمجها بالأبحاث المستقبلية لبوزون هيجز من كسر طوق عدم اليقين الكوني في حقبة جزء من آلاف المليارات التريليونية من الثانية الأولى للحظة ما بعد تكوُّن نقطة الآحاد الكونية المتناهية في الكثافة والعالية في الطاقة والحرارة. ومن الجدير ذكره هنا هو أن العمل الفيزيوكوني البحثي الطلائعي الرائد يقف اليوم على أعتاب مستقبل علمي يشب عن الطوق زمكانياً خارج البحث الفيزيوكوني التقليدي الحالي حيث يمكن في ضوء منجزاته التحكم في المادة في أصغر حدودها الأساسية زمنياً ضمن مقاييس مجهرية غير مسبوقة تتجاوز الحدود النانوية والفيمتوثانية إلى البيكو ثانية فالأتو ثانية ثم أخيراً إلى الزبتوثانية فالكرونن التي تفوق الفواصل الزمنية لكل منها الخيال البشرى وتوقعات الفكر الإنساني. وسوف يكشف لنا البحث العلمي في المستقبل عند هذا المستوى الخيالي من الزمن غرائب جديدة للدقائق النووية وأوتار الكواركات.
لعل من أهم المنجزات المستقبلية الجديرة بالذكر في هذا الصدد الأنابيب الكربونية النانوية المصنوعة من الجرافيت التي سوف تتألف منها مستقبلاً أجسام السيارات والطائرات والبواخر والمركبات الفضائية لإكسابها أوزاناً أقل وسرعات أكبر وصلابة أكثر ومقاومة أشد للحرارة والكوارث المباغتة. ويتوقع العلماء أن المستقبل القريب بإذن الله سيحفل بإنتاج بطاريات نانوية سوف تولد طاقة تفوق الطاقة التي تولدها البطاريات التقليدية المعاصرة. وتنبئ سيناريوهات المستقبل ونماذج المحاكاة الحاسوبية والرياضية وامتدادات توقعات العمل المختبري النانوي الدقيق الاستدلالي الفروضي بقرب توليد حواسيب في حجم دمعة العين أو رأس الدبوس أو قلم الرصاص التي تفوق ذاكرة رقائقها النانوية عشرات الآلاف من المرات ذاكرة حواسيب اليوم التقليدية ورقائقها الكلاسيكية غير النانوية. ويتجلى للعلماء اليوم أفق مستقبلي تلوح فيه، كما أشرت إلى ذلك آنفاً في بداية هذا المقال، معالم توليد أنظمة روبوتية متنوعة الوظائف والأحجام النانوية منها تلك الروبوتات التي من الممكن أن يبلعها المريض لإجراء عملية جراحية له دون حاجة لغرفة عمليات معقدة ومباضع الجراحة وتقنياتها العصرية. وقد تقوم هذه الروبوتات بعلاج الأمراض المستعصية كاللوكيميا وأنواع الأورام الخطرة إضافة إلى إمكانية دعمها لخلايا الدم بمعدلات تزيد بنحو 200 مرة عن الدعم الذي توفره خلايا الدم الأصلية عند الإنسان. ولم تغفل الجهود العلمية المتعلقة بتنبؤات المستقبل الوقوف عند إمكانية نمذجة الزمكنة الفضائية ومحاكاتها وأبعاد الانحناء الكوني لاستنباط قدرات المادة والطاقة عند المقياس النانوي وما يليه من المقاييس المجهرية. وسوف تساعد هذه الجهود العلماء على توليد منجزات نانوية تصنيعية مستقبلية فائقة منها صناعات لتوليد مركبات فضائية نانوية للسفر عبر المجرات لتوفير معلومات كونية غير مسبوقة وخرائط للكون لم تشهدها البشرية من قبل وخاصة ما يتعلق بتوزيع النسيج الكوني وأنماط ذلك التوزيع والخصائص الطبيعية لبلايين المجرات والأكوان الموازية. وسوف تقترن هذه التقنية بتصنيع مصاعد فضائية وفقاً للمقاييس النانوية تهيئ للعلماء فرصا للعروج بواسطتها في الفضاء الفسيح بهدف استقصاء أدق الاجزاء الكونية ومعرفة الأبعاد الزمكانية المفقودة للكون وتفاصيل القوى الكونية وأسرار الدقائق النووية المؤلفة للمادة والطاقة الداكنتين إضافة إلىما يمكن أن توفره هذه المصاعد من معلومات غير مسبوقة والكشف عن طبيعة أفق الحدث للثقوب السوداء وسبر أغوار مكامن الخندقة الكمية والتشابك الكمومي وسر انتقال المادة في الفضاء تحت تأثير ظروف انعدام الزمكنة وقوى التجاذب الكوني . وسوف تتطور أبحاث النانو في المجالات العسكرية والاستراتيجية الاستخبارية الفائقة المدعومة بالمختبرات النانوية العلمية المتقدمة التي توفر للمصانع العسكرية السرية أدق النتائج لإنتاج أجهزة وعتاد حربي نانوي فائق التقدم إضافة إلى أجهزة استخبارات على المقياس النانوي غير المرئي المدعومة بجيوش نانوية لا حصر لها كماً ونوعاً.
إن هذه التحولات، إن حدثت، ستقود، حسب أطروحات العلامة القدير أ. د. محجوب عبيد طه رحمه الله أستاذ الفيزياء النظرية بجامعة الملك سعود، إلى وضع تقل في النظرية الموجودات والتفاعلات الأساسية وتكبر فيها مجموعات التماثل وتندرج القوانين تحت أطر نظريات أعم وأشمل من نظريات اليوم. كما ستسود المبادئ العامة التي تصف، من وجهة نظره طيب الله ثراه، مجموعة من الحقائق محصلة من تجارب متشابهة تفوق كل الاعتبارات المفاهيمية السابقة لها وتتغير بناها الرياضية بشكل يتناسب مع صيغ التفاعلات الأساسية المنشودة. ويستطرد غفر الله له مشيراً في هذا الصدد إلى أن هذا التحول الحذر لمنظور علم الطبيعة المعاصر سيكون نتاجاً لسلسة من الجهود التي ستبذل خلال هذا القرن لحصر الاحتمالات وتضييق نطاق المقبول من المبادئ والمفاهيم التي تقتضيها صيغ التفاعلات الأساسية المرتقبة. ويؤكد الدكتور محجوب في السياق ذاته إلى أن مبدأ التطبيع ومبدأ اللاتغير القياسي الذي يتبنى «نظرية الأكوان الكمية» ومبدأ التماثل في «نظرية الأوتار الفائقة» هي في مجملها صيغ مقبولة للتفاعلات الأساسية في النظرية الفيزيائية المستقبلية. ولكن في رأيي المتواضع أن هذه الدلائل التي ظن العلماء أنهم قد قدروا عليها وملكوا زمام أمرها تنقلب فجأة وبالاً عليهم بعد ما أعلن فيرنر هايزنبرج «مبدأ عدم اليقين» القاضي باستحالة تحديد موقع إلكترون ما وسرعته في الآن نفسه. وهذا أمر دعا العلماء عند هذه النقطة في الزمان من منظور علم الطبيعة المعاصر، أن يتساءلوا عما إذا كان مبدأ عدم اليقين يفرض قيداً على المعرفة البشرية وعلى صفة الحرية والاختيار للجسيمات، وتساءلوا أيضاً فيما إذا كان من الممكن إعطاء معنى لسلوك الجسيمات في ظل عدم اليقين أو اللاتحددية التي يفرضها هذا المبدأ. وفي المقابل أثار العلماء تساؤلات مهمة وقضايا شائكة أخرى كمحاور للعمل المستقبلي في علم الطبيعة تركزت جميعها حول مفاهيم المكان والمادة والزمان والسببية وفقاً للتفصيل الذي سيرد أدناه. كما تركزت هذه التساؤلات حول وضع هذه المفاهيم في ظل «نظرية الأوتار الفائقة» التي ربما ستمثل المنظور المنطقي القادم لهذا العلم، وإلى أن يصل العلماء إلى هذه النظرية سيظل العلماء يبحثون حثيثا عن الإجابات لهذه التساؤلات بشكل فوري وحاسم كي يتمكن البحث الفيزيوكوني المعاصر من الولوج في أفق المستقبل المدهش المرتقب.
على الرغم من تقدم البحث الفيزيوكيميوكوني المعاصر وجديته وتلاحقه إلا أن إطاره المرجعي لايزال كما أشرت آنفا يرضخ لعدد من التساؤلات الهامة العميقة الحائرة التي تبحث، وفقاً لعدد من المنظرين الفيزيائيين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر براين جرين صاحب كتاب «الكون الأنيق» والأستاذ الدكتور محجوب عبيد طه في طرحه عن «النظرية النهائية في الفيزياء» وغيرهما الكثير، عن إجابات حاسمة وقاطعة لمختلف القضايا الفيزيوكونية الأساسية النظرية والتطبيقية. ومن أهم تلك التساؤلات المجموعة التي تهتم بمفهومي المكان والمادة من مثل: هل المكان سابق لمحتوي المادة، وهل المادة ضرورية لمفهوم المكان، وهل من الممكن أن نعطي معنى للمكان دون وجود المادة فيه، وما معنى شغل جسيم مكان ما، وهل كل ما يشاهد مادي، وما علاقة المادة بالطاقة، وما معني بقاء المادة، وما هي صلة المادة بالكتلة، وهل هناك أجسام خارجية عن المشاهد وأجسام داخلية، وهل هناك قوى خارجية وقوى داخلية للمادة، وما معنى اختفاء المادة وظهورها، وكيف توجد المادة من عدم. وهل التجارب المعملية قادرة على إثبات أو نفي العدم. وتتلاحق هذه التساؤلات يتبع بعضها بعضاً كالأمواج الهادرة في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج وبخاصة في القضايا ذات العلاقة بالتمييز بين الزمانين المطلق والنسبي التي تتمحور لدى عدد من الفيزيائيين، ومنهم ستيفن هوكنج عند نقاشه لأسهم الزمن تحديداً في كتابه الشهير «مختصر الزمن»، فيما يلي: هل من الممكن أن يكون الزمان موجوداً في غياب المادة وفي غياب المشاهد, وما صلة الزمان بالحركة, وما معنى السكون المطلق والسكون النسبي, وماهي الصلة بين الزمان والحدث الفيزيائي, وما هي الصلة بين الزمان اللحظة وبين التاريخ والوقت للحظات المختلفة, وماهي مسيرة الزمان واتجاهه وتطوره, وما معنى أسهم الزمن وما اتجاهها, وما هو مفهوم المتسع المكاني والزماني, وما معنى التتابع الزمنى للظواهر والحوادث وما دور العلم في تمكين المادة والطاقة من السفر عبر الزمن بالمعلومات لا بالذات وهل يمكن للإنسان من عبور ذلك الزمن بهذه الطريقة خارج حدود الزمان والمكان المألوفين؟ أما القضايا التي تتعلق بمفهوم السببية فتتمحور حول ما يلي من تساؤلات: هل صحيح أن لكل شيء سبباً، وهل هناك أمثلة لأحداث فيزيائية لا ترتبط ارتباطاً سببياً، وما هي الصلة بين التفسير والتسبيب، وهل يختلف الأول عن الثاني، وما الصلبين التسبيب والقصد، وهل الإحصاء وسيلة لكشف السبب أم أنه احتمال علاقاتي غير قابل للتفسير سببياً. ويرى المشتغلون بنظرية المعرفة وبفلسفة علم الطبيعة أن عدم الوصول إلى إجابات مقنعة عن التساؤلات الأنفة الذكر في الأمد القريب ربما يضع كامل العلم وما يرتبط به من نظريات وقوانين وشروحات في أزمة معرفية لا يمكن التكهن بمدى ضررها على الفكرالفيزيوكوني التنظيري والتطبيقي المعاصر في المستقبل المنظور.