عبدالرحمن الحبيب
تقول الطرفة الأمريكية إن البروفيسور بعد انتهائه من تجاربه العلمية على منتَج جديد واقتراب اكتمال إصدار الدراسة، سأل مدير عام الشركة: والآن قل لي هل تريد أن نمدح المنتَج الجديد أم نذمه؟
قضيت معظم سنوات عملي في التجارب الحقلية والدراسات العلمية والتحكيم العلمي، ووجدت خطأً شائعاً وهو أنه عندما تُذكر نتيجة دراسة علمية عن منتج أو أسلوب بأنه عظيم النفع، فإن كثيراً من الناس (وحتى بعض الباحثين)، قد يأخذون ذلك على أنه حقيقة كاملة وقد يتم على أساسه قرار مهم (اقتصادي، صحي، تعليمي، بيئي..)، بينما هناك طبيعة نسبية لنتائج البحث العلمي.. صحيح أن الدراسات العلمية ذات ضبط منهجي صارم لكنها ليست خالية من الخلل أو النقص أو الخطأ أو الاستثناء أو الميول والتحيز.. وحتى في حال دقة وسلامة نتائج الدراسة فقد تكون خاصة لنطاق ضيق ويصعب تعميمها، وقد تحتاج لإعادة تأكيد أو مصدر بحثي آخر مستقل ..إلخ....
هذا لا يعني أن نتائج الدراسات العلمية غير موثوقة، بل يعني أن لها نجاحاً عملياً مرحلياً وصدقاً نسبياً وليس حقيقة مطلقة. وليس الغرض هنا الشك الارتيابي المحبط بالعلم بل النقد الصحي المحفز لتطوير طرق التفكير وأدوات القياس ومناهج البحث، وعدم الركون للمعارف التي تعوَّد عليها المجتمع العلمي. فرغم أن الصواب هو ما يثبت أمام امتحان التجربة العلمية، إلا أن الطرق العلمية لتنفيذ التجربة تظل مسألة نسبية قابلة للتطوير..
من أشهر المجلات العلمية في العالم مجلة نيتشر، نشرت قبل عشر سنوات مقالاً مفاهيمياً مهماً (تناولتها هنا في حينها)، ولا يزال ذا قيمة مثرية، طرحه علماء من جامعتي كامبريدج وملبورن الذين يشعرون بالقلق إزاء نقص طبيعة المعرفة العلمية بين صناع القرار الرئيسيين، ويريد هؤلاء العلماء مساعدة الناس على فهم «الطبيعة غير الكاملة للعلم» وتمكين صُنَّاع السياسات وأصحاب القرار من استجواب مستشاريهم وخبرائهم بذكاء بدلاً من مجرد قبول المعلومات العلمية كما هي.. لتساعد الناس على «فهم جودة الأدلة وحدودها وتحيزاتها».. وتساعد صناع السياسات على التفاعل بشكل أفضل مع العلم والعلماء وفهم محدودية الأدلة.. مما سيسمح باستجواب أفضل لأولئك الذين ينقلون المعلومات العلمية..
نحن نطلق على كل ذلك «مهارات التفسير العلمي»؛ كما جاء في مقدمة المقال الذي طرحوا فيه عشرين مفهوماً يعتقدون أنها يجب أن تكون جزءاً من تعليم موظفي الخدمة المدنية والسياسيين ومستشاري السياسات والصحفيين وأي شخص آخر قد يضطر إلى التفاعل مع العلم أو العلماء ونتائج أبحاثهم. يقول البروفيسور سبيجلهالتر (أحد كتاب المقال): «يمكن استخدام هذه النصائح كقائمة مرجعية عند مواجهة الادعاءات العلمية. العلم ليس مجرد مجموعة من الحقائق، فمن المهم أن يكون لديك فهم للعملية التي يتم من خلالها استخلاص النتائج، والمزالق المحتملة على هذا المسار».
من أهم هذه الأطروحات أنه لا يوجد قياس دقيق للاختبارات، فمن الناحية العملية جميع القياسات لديها بعض الأخطاء والانحراف في الأرقام؛ فإذا قيل لك إن الاقتصاد نما بنسبة 0.13 % الشهر الماضي، فهناك احتمال معتدل بأن يكون في الواقع قد تقلص حسب درجة الخطأ والدقة.
التحيز شائع في الأبحاث، فقد يؤدي تصميم التجربة وطرق القياس إلى نتائج منحرفة في اتجاه معين. مثلاً، تحديد سلوك التصويت عن طريق سؤال الناس في الشارع أو المنزل أو عبر الإنترنت، سيؤدي لأخذ عينات من نسب مختلفة من السكان، وقد تعطي جميعها نتائج مختلفة. كما أن حجم العينة مهم، فتقدير متوسط فعالية دواء يكون أكثر موثوقية ودقة من خلال تجربة تضم عشرات الآلاف من المشاركين مقارنة بتجربة تضم مئات المشاركين.
ومن أكثر ما يضلل في الاستنتاجات هو الاعتقاد بأن الارتباط يعني السببية، فمن المغري أن نفترض أن أحد الأنماط يسبب نمطاً آخر؛ لكن قد يكون الارتباط محض صدفة، أو قد يكون نتيجة لأن كلا النمطين ناجم عن عامل ثالث متغير «مربك» أو «كامن». على سبيل المثال، اعتقد علماء البيئة في وقت ما أن الطحالب السامة تقتل الأسماك في مصبات الأنهار؛ اتضح أن الطحالب تنمو حيث ماتت الأسماك، فالطحالب لم تسبب الوفيات.
العلماء بشر.. لديهم مصلحة طبيعية في الترويج لأعمالهم، غالبًا من أجل الحصول على مكانة وتمويل بحثي إضافي، وأحياناً تحقيق مكاسب مالية مباشرة. هذا يمكن أن يؤدي إلى تقارير انتقائية من النتائج، وفي بعض الأحيان إلى المبالغة. كما أن مراجعة المحكمين العلميين ليست معصومة من الخطأ: فقد يفضل محررو الدوريات النتائج الإيجابية والتي تستحق النشر. لذا، فتتعدد مصادر الأدلة المستقلة أكثر إقناعاً.
أهمية الدراسة تحد من التعميمات. تعتمد أهمية الدراسة على مدى تشابه الظروف التي يتم إجراؤها فيها مع ظروف القضية قيد النظر. على سبيل المثال، هناك حدود للتعميمات التي يمكن للمرء أن يطلقها من التجارب على الحيوانات أو المختبرات على البشر.
أخيراً، دعوات دمج العلم في عملية صنع القرار شائعة منذ عقود، لكن هناك مشاكل جدية في تطبيق العلوم على السياسات من الطاقة إلى الصحة والبيئة إلى التعليم.. قد يفضل السياسيون تسليح أنفسهم بهذه المجموعة المهمة من المعرفة للطبيعة العلمية.