رقية نبيل
في الماضي كنت دائمًا أتعجب من حادثات التاريخ غير المنطقية، غير المفهومة، غير الإنسانية، على سبيل المثال كيف سمح الناس في روما القديمة لكاليجولا أن يتمادى في طغيانه إلى هذا الحد؟ كيف صار من الطبيعي والمألوف والعادي جدًا أن تُعتمد مباريات قطع الرؤوس الرياضة الشعبية المفضلة؟ كيف وافق عليه القوم وحاشية الملك أن يأكل حصان السلطان المبجل كاليجولا على نفس مائدتهم بل ويُقدم لهم طعام الحصان المفضل التبن وعلى الجميع أن يتناوله كي لا يشعر الحصان بالوحدة!!
أو مثلًا كيف سمح من عاش في ذاك الوقت لأصحاب الأخدود أن يحفروا أخدودهم؟ أن يلقوا في حر ناره كل هؤلاء البشر المسالمين، أن ينتزعوا الأطفال من أحضان أمهاتهم ويقذفوهم إلى النار تأكلهم وتنهش أجسادهم الغضة الطرية؟!
كيف عاشت حاشية فرعون وجنوده، كيف أكملوا طعامهم واستأنفوا حفلاتهم ولياليهم المِلاح بعد أن انتهوا من قذف ناشطة ابنة فرعون في الزيت المغلي لتلحق آخر أطفالها وأصغرهم الذي ذابت عظامه ولبن أمه في ثغره الصغير لا يزال!!
كيف سمح الناس لمحاكم التفتيش أن توجد؟ وكيف صارت مشاهدة حفلات الحريق لثلة جديدة من المسلمين تسلية القرويين الفضلى؟
بم كان يفكر مخترع قانون براءة الساحرات، أو من كان يُظنّ بهن أنهن ساحرات؟ ألقِها مقيدة في المياه الهائجة إن غرقت فهي بريئة وإن نجت فهي ساحرة وتُحرق بالنار على مرأى العوام!!
غير أنني اليوم لم أعد أتعجب لشيء، إن زماننا هذا يحوي من الأهوال مالا يكاد يصدقه عقل،كيف لعقل أن يسمح بإبادة جماعية لمدينة بريئة مسالمة؟ لقتل الأطفال وذبحهم كل ليلة؟! ثم يخرج القتلة بمساحيق التجميل تغطي وجوههم على الشاشات في ضوء النهار ليخاطبوا دون حياء جموع فينا «نحن المساكين المُعتدى علينا قررنا قتل كل المعتدين ووأد كل الأطفال وتشريد كل النساء وقهر كل الرجال، وعقابًا لهم سنأخذ بيوتهم أوطانهم وأحواشهم ونرعى فيها أبقارنا ونربي على مراعيها مواشينا، ثم يا أيها الجمع ابكوا علينا وعلى مسكنتنا وعلى ضعفنا واذرفوا الدمع الغزير أو سنفقئ أعينكم ونحشوها بالدموع!»
على مدار تاريخ البشرية كان هناك قتل وتشريد، القوي يأكل الضعيف والقوي يكتب التاريخ والقوي هو من يروي الحكاية، لكن قلب الموازين هذا قد لايكون حدث شهدته البشرية قط من قبل، سقطة فريدة من نوعها أيها السيدات والسادة!
كيف صارت مشاهد الذل والدم والقتل والتجويع والحصار تُدار على مرأى الشهود، أمام عين الجلاد والقضاة!! ثم يجتمع القوم ليقرروا وقف شلال الدم، يجتمعون والقرار المعد قبًلا يسبقهم، ملفوفًا في ورقة وجاهزًا ومحضرًا! تمثيلية منسقة بنصوصها وشخوصها ومسرحها، ثم يتفاجأ الجميع بالقرار ويلوون شفاههم امتعاضًا.
وحين نكون، نحن البشر سوية على أرض المحشر، منذ أن خلق آدم عليه السلام وحتى البشر الذي سوف يكونون هناك حين ينتهي الزمان وتُطوى السماوات والأرض وتقوم الساعة، معًا جنبًا إلى جنب كتفًا إلى كتف، القاتل والمقتول، الظالم والمظلوم، المالك والعبد، الفاجر والعابد، الطالح والصالح، السجين والسجان، الضحية والمُدان،كلهم سواء، على أرض مستوية واحدة، فوق ذات السطح الذي لا اعوجاج فيه، حينها قد ينظر لنا إخوتنا في البشرية الذين اختيروا ليعيشوا في زمن مختلف عنّا ويسألونا بتعجب كيف أصبحت النساء عندكم سلعة تُباع وتُشترى؟ كيف صار التحول الجنسي أمرا لا غبار عليه؟! من المجنون الذي يسمح بقطع الأثداء للتحول إلى مسخ رجل؟! كيف سمحتم بقتل أهل فلسطين؟ كيف ظننتم أن استجداء العدو قد يجدي وأن استنطاق الصخر قد ينطقه؟ كيف اعوجت ألسنتكم وشاهت وجوهكم لأجل عدوكم كيف ظننتم أن بيده النجاة وبيده الخلاص وبيده الحرية؟ كيف فرطتم في بيت المقدس؟ الأرض التي سكنها الأنبياء وحارب لأجل طهرها كل الصالحين؟ ثم سمحتم للثرى أن يتنجس وتركتم كل أبواب القدس مشرعة أمام العدا، وعصبتم أعينكم كي لا تروا الدماء وجعدتم أنوفكم كي لا تشم الدماء وقطعتم كل الآذان عن الصرخات الثكلى؟!