حسن اليمني
هناك أبجدية أساسية تأتي بعد المشفى والمدرسة وهي وسيلة النقل العام، ولأنَّ بلادنا بهذه المساحة الهائلة والمدن والقرى المتناثرة على مسافات متباعدة إضافة إلى مدن متمددة يصبح النقل العام أكثر من أبجدية أساسية لكنها بكل أسف غائبة بشكل يضعف وبقوة جودة الحياة للإنسان المقيم أو الزائر.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إن الطقس في غالب ربوع الوطن منهك ومتعب للتنقل من خلال المشي على الأقدام للمسافات المعقولة إضافة لعدم صداقة الشوارع والطرق للتنقل عبر المشي، فهي مخصصة ومهندسة للمركبات وحق عبور المشاة مجرد لوحات إرشادية لا أحد يعيرها اهتمامًا، وإن انتقلنا من المشي على الأقدام إلى استخدام المركبة الخاصة فإننا نجد التباعد في المسافات بين الأحياء والمرافق العامة، وهذا داخل المدن أما بين المدن والضواحي والقرى المجاورة فالمسافات أبعد, ولكلفة سعر الوقود فإن الانتقال المتكرر يصبح ذا كلفة عالية، وكل هذا وذاك أمام غياب وسائل النقل العام ينخر في جودة الحياة ويزيد صعوبتها ويقلل الخيارات البديلة بل لا يوجد خيارات من الأصل وهذه معضلة كبيرة.
صحيح أنه يوجد حافلات نقل بين المدن وخلال السفر من مدينة إلى أخرى تمر الحافلة ببعض القرى أو بالأصح منافذ لبعض القرى يمكن وضع محطة انتقال إليها لكن ذلك غير موجود، وعليك أن تصل إلى المدينة الأقرب ثم تنتقل عبر سيارة أجرة ذات كلفة عالية أضعاف كلفة النقل بين المدن في الحافلة، وبالتالي أبقى الضواحي والقرى خارج تغطية النقل العام الأمر الذي يجعل الهجرة من القرى والهجر والضواحي للمدن هو الخيار الوحيد برغم ارتفاع كلفة العقار تملكاً واستئجارًا، إلا أن الحاجة للتنقل ربما ساوى في الضرورة الحاجة للسكن.
غياب وسائل النقل العام تجبر كل فرد على تملك مركبته الخاصة وكل حسب قدرته المالية، فتكتظ الشوارع والطرق بالمركبات القديمة والمستهلكة من جهة ودخول غير المؤهل بشكل جيد لقيادة المركبة إلى الشوارع والطرق بما يربك حركة السير ويخلق الفوضى التي تكاد تكون سمة لحركة السير لدينا، فتقوم وزارة النقل والبلدية بتوسعة الطرق والشوارع فتصبح وكأنها تنشئ ميادين واسعة للفوضى، والقصد هنا أن سعة الطرق والشوارع ليس بالضرورة خادمًا جيدًا لضبط حركة السير، بل إنه ربما عُدَّ واحدًا من أهم أسباب صناعة فوضى الحركة والسير، بدليل أن مدنًا عالمية سبقتنا في استخدام الآلة قل ما تجد فيها طرقًا بسعة ما لدينا، ولا تعتبر هذه ميزة لنا بل دليل على ضعف هندسة الطرق وحركة السير لدينا، نحن وحتى في الشوارع التي لا يزيد عرضها عن ثمانية أمتار متاحة للحركة المزدوجة وفوق ذلك يسمح بمواقف للمركبات بجانبي هذا الشارع في صورة تجعلك تشعر بغياب المنطق في إدارة جهاز حركة السير.
رؤوس الأقلام تكفي عن تفاصيل وإسهاب في تصوير أهمية توفر وسائل النقل العام وكذلك هندسة رسم الطرق وإدارة حركة السير، ويكفي أن الفصل بين المسارين في أغلب الشوارع في مدن العالم مجرد خط أصفر مرسوم على الأسفلت بينما نضطر لصناعة رصيف مرتفع من الأسمنت تحفظ فيه أنوار الإضاءة وربما تم تشجيره ومع ذلك تجد من يقفز بمركبته فوقه للاتجاه للمسار الآخر، وقد يرى هذا التصرف جنونًا وحماقة وهو كذلك لكن لعل له العذر للخلاص من اختناق بعض التقاطعات وإشارات المرور التي تستهلك من الزمن وقتاً طويلاً بما يرهق الأعصاب ويجعله خيار المضطر، على أن اكتظاظ الطرق والشوارع بالمركبات إلى درجة الاختناق إنما يعود لغياب وسائل النقل العام. وبالمختصر المفيد فإن غياب وسائل النقل العام هو السبب الرئيس الذي يجعل جهاز السير عاجزًا مهمًا امتلك من إمكانات عن تحسين جودة حركة السير ولا يمكن بل ربما استحال تطوير حركة السير وتجويد ضبطها في غياب وسائل نقل عام تطرد أكثر من 60 % من المركبات من الشوارع والطرق لتوفر لجهاز السير أو المرور إظهار قدرته وإبداعه في تجويد الحركة ربما بأفضل مما نراه في مدن كثيرة في العالم. والمزعج حقاً أن يستعان برفع كلفة المخالفات المرورية بدلاً من البحث عن الأسباب الحقيقية التي تجعل المخالفة المرورية أحيانا امر لا مفر منه، ويعود ذلك لضعف قراءة طبيعة الواقع بما ينسجم مع الرسم النظري المبني على المثالية المستحيلة.
إن صناعة وسائل نقل عام يغطي كافة الاحتياجات داخل المدن وبين المدن وضواحيها وقراها وهجرها وبين المناطق في أرجاء الوطن أمر ميسور وسهل ونستطيع تحقيقه في وقت قصير وربما دون كلفة، لا بل وبمردود جيد على اقتصاد الوطن وتحسين جودة حياة الإنسان. بادئ ذي بدء ابتعاد الحكومة ممثلة بوزارة النقل عن وسائل النقل العام، ثانيًا فتح الاستثمار في النقل العام للقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي على أن تقسم طرق المواصلات في عموم الوطن لمربعات جغرافية توزع على شركات عدة في هذا الاختصاص، وكلما زاد عدد الشركات تقلص وقت التنفيذ وأسرع الإنجاز وتصاعدت المزاحمة والتنافس في الخدمة والأسعار، وحين يتم ذلك نبدأ في الخطوة الثانية وهي إعادة هندسة الطرق والشوارع من خلال تأنيس جمودها وإدخال حركة التنقل الراجل وكذلك الدراجات الهوائية ومسار الحافلات والقطر الكهربائية الذي يوجب إلغاء الأرصفة الفاصلة بين المسارات لتسهيل حركة القطارات الكهربائية والسير الراجل وعربات ذوي الاحتياجات الخاصة بسلاسة، ولن يكون ذلك إلا بالاستغناء عن الطرق الواسعة بين الأحياء وداخلها، وسيظهر أن ذلك ممكن وسهل حين ينتقل معظم الناس من استخدام المركبات الخاصة إلى النقل العام بما يقلص حجم الاكتظاظ إلى نسب قد تصل 50 % أو أكثر، وهذه النسبة ليست خيالية ولكن حين نعي أن 50 % من مرتادي الطرق والشوارع اليوم هم من ذوي الدخل المتوسط وأقل سواء كانوا وافدين لأعمال مهنية وخدمية أو مواطنين ذوي دخل محدود أو حتى دون المتوسط، هؤلاء وأولئك دون شك يمثلون نسبة كبيرة قد تتجاوز 50 % من مستخدمي الشوارع والطرق بالمركبات الخاصة لغياب البديل، وبخروجهم يتقلص حجم الاكتظاظ بالنسبة ذاتها.
قائل قد يقول: مهلاً تتوفر لدينا حافلات نقل بين المدن ولدينا في الرياض بدأت حركة الحافلات العمل ويُنتظر تشغيل (المترو) ومع ذلك لم يظهر ما يؤشر على سلامة أو صحة رأيك بل زاد الاختناق في الطرق والشوارع ولا زالت الفوضى تعم حركة السير. وجوابي هنا بالتالي: أولاً إن وسائل النقل العام بالشكل الطبيعي والمنطقي كان يجب أن تتواكب إن لم أقل تسبق رسم طرق المواصلات وتعبيد الطرق لأنها هي الأصل وليس المركبات الخاصة، أما وأن الأمر قد فاتنا فلا بد إذن من أن تظهر وسائل النقل العام بشكل متكامل حافلات وقاطرات دفعة واحدة وشاملة كل الأنحاء دون تمييز بين قوة أو ضعف الحاجة باعتبار أن وسائل النقل العام أبجدية أساسية مثل المشفى والمدرسة، وبما أنه فاتنا ذلك فلابد أن تكون خطوتنا في التدارك قوية توازي قوة الغياب، والذي تم هو تشغيل حافلات نقل عام لمواقع مختارة وبحركة تدرجية دون اكتمال، فلا يُستغرب أبدًا عدم ظهور فاعليتها بالشكل المرغوب، حين تتوفر الخدمة بشكل متكامل بالتأكيد سنرى النجاح المتوقع، على أنه وللعدل والإنصاف فإن ما سمعته ممن استفاد من هذه الخدمة من ثناء واعتزاز يجعل الأمر مبشرًا بالنجاح، والأمر يحتاج فقط لوقت واكتمال، ولا أعرف لماذا يغيب عن النقل مسار ربط المدن بضواحيها وقراها -وعلى سبيل المثال- لنقل ربط الرياض بالضواحي والهجر والقرى المجاورة مثل المزاحمية وضرما والعمارية والجبيلة والعيينة، ولو مددنا المسار إلى السيح والسلمية والهياثم والضبيعة والنعجان والدلم والصحنة وملهم وحريملاء والتويم والجنيفي وشقرا والقويعية والدوادمي ولو حتى بمغادرتين واحدة في الصباح والأخرى في المساء يقيني أنه مسار مثمر ومفيد ومعين ومساعد لكثيرين للهجرة المعاكسة من الرياض إلى هذه النواحي الرائعة أو البقاء فيها إن كانوا سكانها.
أحلم أن أصبح على خبر ذات يوم يقول: تم الإذن لثلاثمائة شركة وطنية وأجنبية لربط الأحياء والمدن والقرى والضواحي والهجر بوسائل نقل عام متكامل ينتهي خلال ثمانية عشر شهر عن طريق الاستثمار للكلفة بالعوائد التشغيلية دون تحمل وزارة المالية أي مبالغ مع التعهد بأن تكون أسعار النقل رمزية, ومن رحابة الحلم وجدت خبرًا مرادفًا يقول: تم الاتفاق بين وزارة الداخلية ووزارة البلدية بتحويل كافة المخالفات المرورية من المرور لوزارة البلدية لتغطية مشاريع تأنيس الشوارع والطرق في المدن والقرى بالتعاقد مع شركات وطنية وأجنبية بمدة لا تزيد عن ثمانية عشر شهرًا وتكليف الإدارة العامة للمرور بإعادة هندسة حركة السير في الشوارع والطرق لتطبيقها فور نهاية المشروع. وتخيل معي عزيزي القارئ كيف سيكون مزاج المواطن والمقيم بعد اكتمال هذين المشروعين. أتخيل أن حتى الطقس سيعيد حساباته ويتحسن مزاجه بل حتى ذرات الرمل السابحة في الهواء من تلك الصحاري ستخجل من اقتحام المدن والقرى قبل أن تهاجمها وزارة الزراعة بالتشجير والزرع.