خالد بن حمد المالك
حين عدت رئيساً لتحرير صحيفة الجزيرة للمرة الثانية، وكانت الصحيفة تعاني من شحٍّ في الإيرادات، ومحدودية في مساحات الإعلان، كان عليّ أن تكون وجهتي الأولى للمنطقة الشرقية للقاء رجال الأعمال، ووضعهم في صورة التطوّر الذي ستكون عليه الصحيفة في مرحلة تصحيحية واسعة تشمل المحتوى والشكل، والعناصر المتميزة من الكتاب والصحفيين، أملاً بكسبهم شركاء من خلال تزويد الصحيفة بنسبة مناسبة من حجم الإعلانات لديهم.
* *
كان الشيخ عبداللطيف بن حمد الجبر - رحمه الله - خياري الأول في أول لقاء تمّ مع رجال الأعمال بالمنطقة، ولم تكن لي علاقة بالراحل الكبير آنذاك، لكنني كنت أعرف أنه لن يخذلني، وأنه سيكون مشجعاً ومحفزاً للنهوض بصحيفة الجزيرة من كبوتها، ولم يخب ظني، ولم أعُد إلى الرياض «بخفي حنين» فقد تحقق لي ما سعيت إليه آنذاك، إذ أن المرحوم لم يكتف بالتوجيه لمنح حصة جيدة من إعلان شركته، وإنما استقبلني بكل ما عرف عنه من تقدير لزائريه وترحيب بهم، وتفهم لمطالبهم، وزاد على ذلك بأن أصر عليّ بأن أتناول العشاء في منزله بحضور نخبة من رجال الأعمال، بعضهم ممن كانت لديّ معرفة سابقة بهم، وآخرون تعرفت عليهم في هذه الدار المضيافة التي اعتادت أن تكون ملتقى للخيرين من المنطقة وخارجها.
* *
أسرد هذا لأقول بأن معرفتي به ظلت تتعمق منذ ذلك اللقاء، وتزداد من حين لآخر، ولم ينقطع حبل التواصل أو يقتصر على تلك الشراكة التي جمعتني بالمرحوم عام 1999م، وإنما امتدت قبل فترة ليست بعيدة لأعرض عليه أن هيئة الصحفيين السعوديين حصلت على موقع متميز في الأحساء، وإننا في مجلس الإدارة نريد أن يكون هذا المبنى مَعلماً من معالم محافظة الأحساء، وأننا نعتمد بعد الله عز وجل على دعم عبداللطيف الجبر لإنجازه، فكان أن طلب مني المخططات، وتقدير التكاليف، ليحيلها إلى اللجنة المعنية بالمساعدات مع توصية منه، لكنه توفي رحمه الله قبل أن يكون فرع هيئة الصحفيين واحداً من أعماله الخيرية والوطنية والإنسانية والاجتماعية.
* *
يقودني هذا الكلام إلى القول بأن الشيخ عبداللطيف الجبر، وهو الابن الرابع للمرحوم والده حمد الجبر - رحمه الله-، كان رجلاً تنصفه أعماله، وأدواره في خدمة الوطن، بالوثائق، والأرقام، والمسؤوليات، والأعمال الكبيرة، فلا تملك غير الترحم عليه، والشعور بالصدمة، وأنت تتلقى نعيه، ليترك فراغاً كبيراً، وخسارة فادحة، وغياباً لن يبقى من أثر فيه إلا تلك الابتسامة، ودماثة الخلق، والكرم، والشهامة، والأعمال الإنسانية الكبيرة والخالدة، والأبناء البررة الذين سيحاكون والدهم في كل ما ربّاهم عليه، وعودهم على الالتزام به، ونصحهم بما ينبغي أن يكونوا عليه بعد رحيله، مع أن كل هذا لن يغيّب سيرة عطرة، وسنوات من العمل كانت جاذبة، فالطريق الذي رسمه ومهده، هو نبراس لمحاكاته، والتمسك بمبادئه، وهو من سوف يدل ورثته من الأبناء والبنات للتعرف عليه، ومن ثم للوصول إلى ذات النهج.
* *
قصة حياة عبداللطيف الجبر، تستحق أن تُروى، وأن تُخلد، وأن يُقال عنها كل جميل من الكلام، ومن مثله وكل من مثله، يجب أن يكتب عنهم بمداد من ذهب، لا يبخل بالكلام، ولا ينقص منه، بل أن تُتوّج أفعاله بالإشادة والذكر وحسن القول، تقديراً للفقيد وأمثاله، وحفزاً لغيرهم في تسنم خُطى كل الخيرين والوطنيين، وذوي الاهتمام بالناس، فلا خير بمال لا يصرف بوجهه الصحيح، ويكون في جزء منه بلسماً لإسعاد الآخرين بعدوا أو قربوا من صاحب الإنفاق السخي الكريم كما هو عبداللطيف الجبر.
* *
نعم فإن وفاته خسارة كبيرة، وفقده غير عادي، ومن حسن حظه أنه ترك هذه الدنيا الفانية بإنجازات وأعمال عظيمة سوف تبقيه في ذواكر الأحياء، وعند ربه - إن شاء الله - لينال التكريم الذي يستحقه، فهو من تجاوزت أوقافه ومساعداته أكثر من 700 مليون ريال، ومن أبرزها مركز لعلاج الأورام السرطانية بالأحساء وأطلق عليه اسم والده الشيخ حمد - رحمه الله - برّاً به، وهناك مركز مي الجبر للكشف المبكر عن مرض السرطان بالأحساء، ومستشفى الجبر للعيون والأنف والحنجرة بالأحساء، وإسكان خيري بالأحساء، وإنشاء مركز الجبر للكلى بالأحساء، وتكفله ببناء مقرٍّ لنادي الأحساء الأدبي، وغيرها كثير.
* *
والمسيرة بكل تميزها وتأثيرها الإيجابي على مستوى الوطن طويلة ومتنوعة، ولم تتوقف إلى آخر رمق في حياته، فقد خدم البنك العربي ضمن عمله وإسهامه في القطاع المصرفي أكثر من ثلاثين عاماً كان آخرها رئيساً لمجلس الإدارة لمدة عشر سنوات، واختير عضواً في مجلس الشورى في دورتين الأولى والثانية، وحصل على جائزة المنظمة العالمية للسلام والازدهار الدولية وتسلمها في مقر البرلمان البريطاني، كأول سعودي يحصل على هذه الجائزة، كما حصل على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى بمرسوم ملكي، والسلسلة طويلة في المواقع التي تسنمها، والشركات التي أنشأها، وتمثيل الوطن في المؤتمرات الاقتصادية التي كان عضواً فيها، فهو ذو نشاط منذ بواكير شبابه، ونشاطه ومبادراته تنوعت بين الصحي والتعليمي والثقافي والاقتصادي والإنساني والخيري وخدمة المجتمع.
* *
رحم الله الفقيد الشيخ عبداللطيف بن حمد الجبر، ومثله من يُنعى، ويُترحّم عليه، ويُدعى له، ويُعزى فيه، ويُقال فيه وعنه ما يستحق، فقد كان ذا خلق وتعامل راقٍ، وإنتاج مُقدر، ومواقف إنسانية لا تُنسى، إني أعزي فيه أبناءه وأسرته ومحبيه ووطنه، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.