جانبي فروقة
ارتفع الدَّين العام العالمي 40 % منذ عام 2019 م ليصل اليوم إلى 97 $تريليون دولار وحصة الأسد من الدين العام العالمي والتي تشكل 34.20 % هي للولايات المتحدة الأمريكية، فقد تجاوز الدين العام الأمريكي 33.2 $ تريليون دولار في عام 2023م وهو يشكل 126 % من قيمة الناتج المحلي الأمريكي بينما كان الدين في عام 1960م يشكل فقط 54 % من قيمة الناتج المحلي. وقد تسابق آخر أربعة رؤساء على مضاعفة الدين حيث تضاعف حجم الدين العام في ظل حكم الرئيس جورج دبليو بوش بقيمة 5 $ تريليونات دولار ليتجاوز العشرة تريليونات، ومن ثم في حكم الرئيس أوباما زاد حجم الدين العام بقيمة 8.6 $ تريليون وفي حكم ترامب ازداد الدين العام 7.8 $ تريليون دولار وفي عهد بايدن حتى الآن ازداد الدين بقيمة 5 $ تريليونات. وارتفعت تكاليف الفوائد الصافية إلى $659 مليار دولار في السنة المالية 2023، وفقًا لوزارة الخزانة. ويشكل هذا ارتفاعا بقيمة 184 $ مليار دولار، أي بنسبة 39 % عن العام السابق، وتقريبًا ضعف ما كان عليه في السنة المالية 2020. وطبعًا هذا يعني أن المزيد من إيرادات الضرائب الفيدرالية نحو مدفوعات الفائدة وقد قال جيري دواير (أستاذ الاقتصاد الفخري في جامعة كليمسون) «إن الالتزام بالفوائد إلتهم 30 سنتًا من كل دولار ضريبي في الأرباع الثلاثة الأولى من السنة المالية 2023 م مقارنة بأقل من 22 سنت خلال الفترة نفسها في السنتين السابقتين». ولكن يبقى الاقتصاد الأمريكي قوة هائلة على الساحة العالمية وقوته تتلخص بمكانة وقوة الدولار الأمريكي كعملة تداول واحتياط عالميتين (فحسب رويترز أظهرت بيانات صندوق النقد الدولي مؤخرًا أن حصة الدولار الأمريكي من احتياطات العملات العالمية بلغت 58.9 %). وتوفر المراكز التقنية والبحثية وسيطرتها المطلقة على صناعات نوعية كأشباه الموصلات (وقد قامت إدارة الرئيس بايدن بإطلاق إستراتيجية صناعية بتخصيص 50 $ بليون دولار لدعم قطاع تصنيع الرقائق المحلي وتوسيع نطاق البحث) والصناعات العسكرية ودعمها للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم وتوفر ودعم روح الابتكار.
تعد ديون الحكومة الأمريكية من أكثر فئات الأصول تداولًا على مستوى العالم حيث تبقى سندات الخزانة الأمريكية هي الأكثر وثوقًا في العالم، وفي نظرة تحليلية بسيطة للدين العام الأمريكي نجد أن 30 % منه فقط هو دين خارجي لدول أجنبية وما تبقى منه هو دين داخلي ووحدها الحكومة الفيدرالية تمتلك 21.8 % من الدين العام، أي 6.87 $ تريليون دولار، وهذا يشمل ميديكير، والصناديق الائتمانية المتخصصة، مثل تلك المخصصة للطرق السريعة والتأمين على الودائع المصرفية، وبرامج التقاعد للموظفين المدنيين والعسكريين.
ومتانة السوق الأمريكية يؤكدها وجود أكبر 39 من 100 شركة عالمية على أراضيها، واليوم تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية على 42.5 % من إجمالي قيمة الأسهم العالمية (ويتوقع بنك غولدمان ساكس أن تهبط النسبة إلى 35 % في عام 2030م)، مع العلم أن حجم أسواق الأسهم العالمية تضاعف ثلاث مرات تقريبًا منذ عام 2003م، حيث قفز إجمالي القيمة السوقية إلى 109 تريليون دولار في عام 2023م.
إن الاقتصاد الأمريكي يشبه آلة عملاقة تحركها التروس المكونة من الصناعات المختلفة وحسب مكتب الإحصاء الأمريكي فإن 88 % أو 23.5 $ تريليون دولار من إجمالي الناتج المحلي تأتي من الصناعات الخاصة والباقي 3 $ تريليون دولار تأتي من الإنفاق الحكومي على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات والمحلي. وتعد الخدمات المهنية والتجارية هي أكبر صناعة بقيمة مضافة تبلغ 3.5 $ تريليون دولار وتضم المؤسسات التي تقدم خدمات استشارية وقانونية وتصميمية وإدارية وغيرها ويلي هذا القطاع العقارات بقيمة 3.3 $ تريليون دولار وكذلك يقدر قيمة قطاع الإنشاءات ب 1.1 $ تريليون دولار والخدمات التعليمية والرعاية الصحية والمساعدات الاجتماعية وصلت إلى 2.3 $ تريليون دولار وقطاع التصنيع يقدر ب 2.9 $ تريليون دولار ويشكل 11 % فقط من قيمة الناتج المحلي الأمريكي (ولا بد للإشارة هنا إلى أن قطاع التصنيع في الصين -المنافس الأول لأمريكا- ما زال يشكل 39.9 % من الناتج المحلي الصيني والذي يبلغ 19.4 $ تريليون دولار). ومن سمات الاقتصاد الأمريكي أنه اقتصاد موجه نحو الخدمات ولكن بعد جائحة كوفيد19 واستعار المنافسة مع الصين بدأ التوجه نحو تشجيع الصناعة المحلية لتأخذ دورًا أكبر، ولاحظنا مؤخرًا أهمية وتشجيع توطين صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية في أمريكا ودعم هذا القطاع كما أسلفنا.
صرَّح مرة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق «آلان جرينسبان» لقناة «سي إن بي سي» في عام 2011 م قائلاً: «يمكن للولايات المتحدة الأمريكية دفع أي ديون عليها وذلك ببساطة لأنها تستطيع دائمًا طباعة الأموال التي تمكنها ذلك، لذلك أقول إنه لا يوجد احتمال بأن نتخلف أبدًا عن السداد»، ولكن تبقى هناك تداعيات سلبية لطباعة دولارات أكثر منها التضخم وتآكل الثقة في العملة وانخفاض قيمتها والبدائل المتاحة لطباعة المزيد من الدولارات هي زيادة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية وخفض الضرائب والسياسة النقدية التيسيرية بالتوجه لخفض أسعار الفائدة للتشجيع على الاقتراض والإنفاق، لذلك يحتاج الساسة دومًا لخلق بدائل أكثر فاعلية لتحفيز الاقتصاد.
كانت أمريكا في عام 1990 م تنتج ما قيمته ربع مجموع الناتج المحلي العالمي، واليوم وبعد مرور ثلاثين عامًا لم تتغير هذه الحصة حتى مع اكتساب الصين نفوذًا أقوى، واليوم تمثل أمريكا 58 % من الناتج المحلي الإجمالي لمجموعة السبع مقارنة بـ40 % في عام 1990م. والأميركيون يعملون ساعات أطول في المتوسط من الأوربيين واليابانيين، وهم أكثر إنتاجية وتمتلك الشركات الأمريكية أكثر من خُمس براءات الاختراع المسجلة في الخارج، أي أكثر من الصين وألمانيا مجتمعتين. وتصرف أمريكا أكثر من 200 مليار دولار على البحث والتطوير، وأحد الميزات القوية للاقتصاد الأمريكي أنها سوق استهلاكية صخمة يمكن توزيع تكاليف البحث والتطوير عليها ويمكن مستقبلاً بحسب رأي الإيكونومست أن تلحق بها الصين والهند، ويتميز السوق الأمريكي كذلك بمرونة سوق العمل والعمالة وهيكليته للتكيف مع أنماط الطلب المتغيرة هي قيمة ديناميكية تتميز بها السوق الأمريكية. فمعدلات التضخم اليوم في أمريكا هي الأخفض بين مثيلاتها في الـ G7 العمالقة السبع حيث وصلت إلى 2.7 % بينما هي 8.7 % في بريطانيا، وكما انخفضت أسعار الطاقة بمعدل 11.7 % في أمريكا عن أعلى معدل في 2022 م ومعدلات البطالة منخفضة في أمريكا عند 3.7 %، وكل هذه المؤشرات ستكون على طاولة السباق الرئاسي الأمريكي العام القادم.
قال بن برنانكي (وزير الخزانة الأمريكي الأسبق) «لقد أثبت التاريخ مرارًا وتكرارًا المرونة المتأصلة وقوة التعافي التي يتمتع بها الاقتصاد الأمريكي».
** **
- كاتب مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية