د.شريف بن محمد الأتربي
بين ليلة وضحاها أصبح الذكاء الاصطناعي هو الحديث الدائر والشغل الشاغل لكافة المحافل العلمية والأدبية والتعليمية، فالكل أصبح يشير إليه بأنه المخلص والمنجي من كل المشكلات التي تواجه البشرية، وهو القادر على إحداث الفارق في حياة الإنسانية، وردم الفجوات التي لم يستطع الإنسان الذي اخترع الذكاء الاصطناعي نفسه ردمها، وبُشر العالم كله أن الغد مع المخلوق التقني الجديد أفضل، ونحن بصدد أن نقفز قفزات هائلة تفوق في ارتفاعها كل الارتفاعات المتوقعة أو الممكنة.
أحدثت هذه الضجة الإعلامية المقصودة أثرها، فأصبح الكل يسير في فلكها، ويحاول اللحاق بركبها، فرأينا الذكاء الاصطناعي يقتحم كل مجالات الحياة، ويتدخل في أدق تفاصيلها، يشاركنا أنفاسنا، بل يحاسبنا على زيادتها أو نقصانها، حتى بات الفرد محاصرا بين جوالات وساعات ذكية، وتطبيقات ومواقع متخفية، تنتظر فقط تفكير الفرد بها، لتخرج من سباتها، وتبدأ هجماتها عليه من كل حدب وصوب، ولا يفتك من ضجيجها إلا بالعودة إلى زمن ما قبل التقنيات، فيغلق كل الاتصالات والتواصل، ويظل معزولا عن العالم، ورغم ذلك ستهاجمه التقنيات، وتعيده بالقوة إلى زمن الروبوتات.
لقد كثر الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره في العملية التعليمية، ودوره في إضعاف دور الطالب، وتحقيق الأهداف، وكيف يمكن أن يقوم الطالب من خلال توظيف الذكاء الاصطناعي باصطناع إجابات للواجبات والأبحاث وحتى الاختبارات، وربما لن ينجو حتى الغياب من براثن هذه التقنية، والتي قد تمكن رديف الطالب من حضور الحصص والفعاليات، خاصة مع انتشار الروبوتات وتحولها من الشكل الحديدي المألوف إلى الشكل البشري المعروف.
ولعل من أخطر ما أثرت فيه هذه الضجة الإعلامية في ميدان التعليم هو رؤية الطلبة أنفسهم للغد، فمع تسارع وتيرة الحديث عن اختفاء وظائف كثيرة من الوجود تماما، وتدني الطلب على وظائف أخرى نتيجة استخدام الذكاء الاصطناعي بديلا عن بني البشر في هذه الوظائف، بدأ الخوف يتسرب إلى نفوس الطلبة نحو مستقبلهم المهني، وأصبح اختيار التخصص الذي سيتوجهون إليه في مرحلتهم الجامعية اختيارا صعبا، حيث تتسارع التغيرات في سوق العمل أسرع من سنوات الدراسة نفسها، بل إن كثيرا من الطلبة الذين أنهوا دراساتهم الجامعية حديثا أصبحوا يعانون عدم وجود وظائف لهم، مما أجبرهم على العمل في وظائف أخرى في غير تخصصهم الذي اختاروه قبل سنوات بمحض إرادتهم، وظنا منهم أنه سيوفر لهم حياة كريمة ومدخولا اقتصاديا مناسبا لهم.
إن المهمة الملقاة حاليا على عاتق مسؤولي التعليم ليست فقط مهمة مكافحة ومحاربة الغش الناتج عن استخدام التقنيات الجديدة؛ لكن المهمة الأعظم هي العمل على تهيئة هؤلاء الطلبة للتعامل مع هذه التقنية بشكل مقنن ومفيد لهم أولا، مما يعود بالنفع على مجتمعهم أيضا.
لقد انتقلت مشاعر الخوف والقلق من داخل المنازل إلى القادة في كثير من الدول الغربية التي كانت حاضنة لوجود ونمو الذكاء الاصطناعي، مما دعاهم إلى المسارعة بالتدخل لإقرار أول قانون ينظم الذكاء الاصطناعي، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي إلى تنظيم قطاع الذكاء الاصطناعي من خلال قواعد ومعايير تنظم استخدامه، ومن المتوقع أن ينجز مشروع قانون الذكاء الاصطناعي في حال اتفق على بعض القواعد التي تتعلق بالخصوصية، المثيرة للجدل.
وقد أنهى المسؤولون أكثر من 70 في المائة من مسودة ما يعتبر أول قانون في العالم ينظم الذكاء الاصطناعي، ومن المنتظر الموافقة على القانون الذي سيلزم القانون مطوري برامج الذكاء بالقيام بعمليات واسعة لتقييم المخاطر التي قد تكون محتملة، وبالتالي إخضاع النماذج للاختبارات طوال فترات التطوير، وحتى بعد إصدارها في الأسواق، وإجراء فحوص والتحقق من صحة البيانات.
إن تنظيم الميدان التقني وإحكامه بقوانين وتشريعات ليس الهدف منه مطلقا وضع قيود على تفكير أو تطلعات العلماء للمستقبل، ولكنه يهدف إلى عدم إفساح المجال للآلة للاستحواذ على مكان البشر في المجتمعات، وتحويلها من مجتمعات بشرية إلى مجتمعات آلية تسخر البشر لخدمتها.