أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
عاش الأستاذ الدكتور الأنصاري -طيب الله ثراه- وهو يحدوه الأمل ألاَّ يغادر دنياه إلاَّ وقد كوَّن مدرسة علمية آثارية ذات منظور معرفي ينتفع به الأجيال -بإذن الله- بعد مماته. وأزعم أن الله قد حقق له آماله، فأضحى في زمن قياسي صاحب مدرسة معرفية أنصارية ابستمولوجية فريدة عابرة للحدود يتفيأ ظلال منظورها الآثاري جيلاً بعد جيل كلّ ذي شغف بالعلم والمعرفة والثقافة. ولذا اكتسب هذا المنظور مع الزمن مكانة معرفية مرموقة في الأوساط العلمية المحلية والإقليمية والعالمية، وارتقى ليصبح منظوراً ذا علامة علمية استقراء- استدلالية فارقة.
ولا شك أن أفكار الدكتور الأنصاري الآثارية المتجددة، وأراءه الوثابة، ورؤاه التوليدية للأنساق العلمية الآثارية غير المسبوقة قد جعلت منه -رحمه الله- الرائد الآثاري السعودي الأول الذي استحق بامتياز لأن يكون -في رأيي المتواضع- صاحب منظور آثاري فاعل يتسق في مجاله مع مصطلح المنظور المتداول في الساحة العلمية العالمية تنظيراً وتطبيقياً. ونظرًا لكونه -رحمه الله- صاحب دربة مجمع عليه في الأوساط العلمية الآثارية، تداول منظوره أهل فن عالٍ في المراس وأحلوه مكان الرؤى السابقة التي عجزت عن سبر أغوار المعضلات الآثارية الفكرية والإجرائية المعاصرة.
ومن الجدير بالذكر، يعد البحث في التراث واللغات واللغة العربية وجذور العرب، انطلاقاً من تخصص الدكتور الأنصاري الدقيق في الكتابات العربية القديمة والنقوش، بؤرة البنية المفاهيمية والإجرائية لهذا المنظور. ولذلك ليس من المستغرب أن يتمحور هذا المنظور حول منطلقات تتعلق بدراسة النقوش القديمة ومفاهيمها، وطرق تصنيفها وربطها تدريساً وتدريبًا بحقبها التاريخية ومواضع اكتشافها والثقافة التي تحويها مواضعها، إضافة إلى تزمين حضارات الجزيرة العربية وأقوامها حسب تسلسلها التاريخي وسبر أغوار أطرها المرجعية الآثارية لتصحيح بعض مظانها وما اقترن بها من سرد تاريخي، وتحقيق المناط لكثير من الروايات المغلوطة في ذلك السرد. كما اعتمد الدكتور الأنصاري -رحمه الله- في توظيف منظوره الآثاري قيد النظر على أطر مرجعية ممنهجة رحبة تتألف من مختلف المظان والمصادر والمراجع المتنوعة معرفياً ولغوياً. وأخص هنا ما يتعلق من تلك الأطر بالبحث الآثاري تحديداً كأخبار الأمم والأقوام ومآلاتهم في القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، إضافة إلى ما يحتويه التراث العربي من معلومات أثرية وما يتمخض عن الدراسات الميدانية الجادة والتنقيبات الآثارية الرصينة من نتائج آثارية محكمة محققة. إضافة إلى ذلك، استند المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري على نماذج قيمة ضمنَها -رحمه الله- مختلف القضايا الآثارية المحورية الكبرى التي أُقضّت مضجعه ومثّلت محط اهتماماته التدريسية والبحثية النظرية والتطبيقية والتنقيبية الميدانية الرئيسة على حد سواء. ومن تلك النماذج التي يشملها منظوره القضية المحورية التي منحها الدكتور الأنصاري -رحمه الله- جل اهتمامه وهي تزمين حضارات الجزيرة العربية وتسلسلها تاريخيًا وجمع نقوشها وتزمينها ضمن طيف تزمين تلك الحضارات.
كما تشمل النماذج التي يحتوي عليها منظور الدكتور الأنصاري القضية الشائكة المتعلقة بالكتابات الثمودية وخرابيش البادية، وأزمة تقسيم العرب في القرن الثالث الهجري إلى عرب عاربة وأخرى مستعربة، وجدلية ملكات سبأ الشمال والأدلة القرآنية والتاريخية لحسمها، وتتبعه المنهجي -طيب الله ثراه- لطبيعة السرد التاريخي والموضوعي لأقوام الجزيرة العربية وما جاورها في القرآن الكريم. ويعد القرآن وفقاً لذلك التتبع مصدرًا مهمًا يمكن أن يستمد منه بدقة -حسب رأي الدكتور الأنصاري- الإطار التاريخي لأقوام الجزيرة العربية وما جاورها الذين يتعذر تتبعهم تاريخيًا في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، وتحديدًا ما يختص بقومي عاد وثمود اللذين تفرد القرآن الكريم بذكرهما في سياقات عدة دونما سواه من الكتب السماوية. كما يعد القرآن الكريم وفقًا ًللمنظور الآثاري لمدرسة الدكتور الأنصاري مصدرًا تاريخياً تتم فيه أركان الاحتجاج لأحداث كثيرة تتماشى مع ما وصل إلينا من أخبار من غير سبيل القرآن أو قد تختلف عنه وخاصة عندما يورد القرآن الحدث بمجرياته الجغرافية والتاريخية بكل تفصيل، ويبرز زمان ذلك الحدث مرتباً تاريخياً من الأقدم إلى الأحدث وفق أدوات الضبط التاريخي المعتادة مثل: قبل، وبعد، وقروناً بين ذلك كثيراً مما يلقي بكل تأكيد ظلالاً على سرد قرآني تاريخي فريد. ولا شك أن هذا الزخم الأنصاري المرجعي قد أثرى منظور مدرسته الآثارية، وهيأها لتُصبح مدرسة ذات منظور معرفي انفتاحي النظام شمولي منظوميّ الاتجاه من ناحية وتخصصيّ دقيق محاكاتيّ المقصد والتوجه من ناحية أخرى.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن المنظور الآثاري لمدرسة الأستاذ الدكتور الأنصاري قد اتخذ منحى التنظيريين الفيزيوكيميائيين الذين شغفوا بالبحث في خواص المادة والعلاقة بين وحداتها اعتمادًا على العقل والحدس والتأمل ثم الحدس والرصد والتدقيق والتحقيق والتجربة. ولا شك أن هذا المنحى قد لعب دورًا فاعلاً في استنباطه -رحمه الله- التعميمات التنظيرية الاستقراء- استدلالية التي وجهت رؤياه التاريخية وشكلت في نهاية المطاف منظوره الآثاري، وبلورت مدرسته المعرفية الزاخرة بالأنساق الحضارية تبويباً وتصنيفاً وقياساً. ولذلك جال سعادته -رحمه الله- وصال طيلة حياته العامرة حراً طليقاً منفتح الذهن منجزاً لا يحده تخصص، ولا تعيقه عن التأمل والنظر فكرة مسبقة إيدولوجية دوجماتية غير براجماتية موغلة في الطيف الداكن أو الرمادي أو فئة تعرقل نهجه أو مسار غاياته العلمية البحثية الاستكشافية التنقيبية المدهشة. فصنع -رحمه الله- نتيجة لكل ذلك -بعون الله- منظوراً معرفياً آثارياً معاصراً تم بموجبه إحلال الدراسات الآثارية التقليدية بدراسات حديثة جادة مبتكرة أثرت البحث الآثاري المعاصر في الجزيرة العربية بشكل عام والمملكة العربية السعودية بشكل خاص.
ولقد عاش الأستاذ الدكتور الأنصاري -طيب الله ثراه- نشوة الأمل وزهوه إلى أن لقى ربه قرير العين نتيجة تبني بعض الآثاريين السعوديين من زملائه وطلابه الجانب المنهجي من منظوره المتمثل في جمعهم معه قبل رحيله -رحمه الله- النقوش والآثار بعضها إلى بعض وتزمين حضارات الجزيرة العربية بإشرافه وربطها ببعضها تاريخياً. وتؤكد استقراءاتي للمسارين النظري والتطبيقي للمنظور الآثاري لمدرسة الدكتور الأنصاري وما يتعلق بهذين المسارين من أبحاث ودراسات تنقيبية أجريت في الفاو والعلا مثلاً، شغف الدكتور الأنصاري -طيب الله ثراه- في تلك التنقيبات وغيرها بالجمع بين النقوش وتزمينها وربطها بتاريخ المواقع التي اكتشفت فيها وماهية الحضارة التي تنتمي إليها وفق منظومة مرجعية استقراء- استدلالية مفتوحة راجعة التغذية تضمن لتلك المنظومة شموخ فلسفتها المعرفية، وتجدد أطرها المفاهيمية، وديمومة أبعادها الإجرائية زمكانياً.
إن بيت القصيد الذي يجب أن يتجلى في هذا المقال هو أن المنظور الآثار لمدرسة الأنصاري قد أثرى الإطار المرجعي النظري والتطبيقي التاريخ- آثاري الحضاري القديم للجزيرة العربية عامة والمملكة العربية السعودية على وجه الخصوص، وأغناه بنفائس ما توصلت إليه نتائج دراسات الدكتور الأنصاري -رحمه الله- للمعثورات الآثارية التي نقب عنها وزملاؤه في مواقع عدة من جزيرة العرب كالعلا وقرية الفاو والربذة تحديداً.
وقد ترتب على تلك الجهود الآنفة الذكر أن سد المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري النقص الذي اعترى بعض الدراسات ذات العلاقة بالحقبة الآثارية القديمة في جزيرة العرب، ورأب الصدع بينها وبين مواضع المكتشفات الآثارية ومواقعها الجغرافية من ناحية وبقية المواقع الجغرافية المترامية المواضع في العالم القديم من ناحية أخرى. ولا تعود شواهد إثراء الإطار المرجعي الآثاري التي ذكرت آنفاً، كما يبدو لي، إلى الطبيعة البنيوية المفاهيمية النظرية والتطبيقية لهذا المنظور فحسب من ناحية، بل تعود أيضاً إلى أطروحات الدكتور الأنصاري الآثارية المتجددة التي سخرها -رحمه الله- زمكانياً بكفاءة واقتدار عبر منظوره إثراءً للإطار المرجعي الآثاري المعاصر لجزيرة العرب من ناحية أخرى.
كما يعود ذلك الإثراء حسب زعمي إلى ما تمتع به -رحمه الله- من جرأة منقطعة النظير على إعادة النظر من خلال منظوره في بعض محتويات الأطر الآثارية المرجعية التي تجاوزتها مستجدات العلم الحديث، وتقنياته المذهلة، ومتطلبات سوق العمل في شتى المجالات الآثارية كجمع النقوش وتحليلها، ورصد الكتابات القديمة، وتقنين التنقيب الآثاري وتطويره، وتزمين حضارات الجزيرة العربية وتسلسلها تاريخيًا.
ومن جانب آخر، تعود فاعلية هذا المنظور وإثرائه للإطار الآثاري المرجعي في زعمي أيضًا إلى إمكاناته الإجرائية التي وظفها -طيب الله ثراه- باحترافية فائقة في تطبيقاته لمختلف طرق التفكير المنهجية التي يشملها منظوره الاستقراء -استدلالي الاستنباطي الاستردادي التبويبي التصنيفي القياسي المتضمن مختلف أوجه عمليات المجانسة والقرائن الجائزة وإجراءاتهما المتنوعة. وقد أدى توظيفه -رحمه الله- لتلك الطرق الآنفة الذكر في رأيي إلى إنجاح جهوده الرامية إلى تأطير حديات مدارك العقل المحض، وكبح جماح تجلياته المؤثرة سلباً في سلامة التحليل الموضوعي لفرص النظر الآثارية قيد البحث، وتعميق جوانب التحقيق المختلفة للأحداث التاريخية قيد الاستقصاء والتدوين الآثاري.
ونتيجة لذلك فقد حدّ المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري بطبيعة الحال من فرص جنوح الأطر المرجعية الآثارية المعاصرة واحتمالات وقوعها في براثن الزلل وإملاءات الأهواء والنزوات. كما حدّ هذا المنظور أيضاً من التأثير السلبي للأطر المرجعية الآثارية الاستشراقية وتوجهاتها الفكرية ومنطلقاتها التفسيرية للكتابات والنقوش الآثارية التي تختلف حسب الدكتور الأنصاري عن منطلقاتنا التفسيرية لها في المجال ذاته.
وعلى الرغم من تأثر الغربيين في الأغلب الأعم بالدراسات الاستشراقية إلا أن بعض الموضوعيين المهتمين بالآثار منهم، كما كان يشير إلى ذلك -رحمه الله- في مناسبات عدة، قد اهتموا بالكتابات والنقوش العربية القديمة اهتمامًا كبيرًا جدًا ودرسوها بعناية واستخلصوا منها قوائم بالدول العربية القديمة.
كما قاموا إضافة إلى ذلك بوضع سلاسل لأسماء الملوك وأسماء الأمراء الذين عاشوا في شمال الجزيرة العربية أو جنوبها، وهو مما لم يستفد منه -في رأيي- الإطار المرجعي الآثاري لجزيرة العرب كما يجب ربما لتعذر الحصول على تلك المعلومات بسبب سرية معظمها آنذاك. ولسد هذا النقص كان لابد على الدكتور الأنصاري من دعم منظوره الآثاري في تلك المرحلة عبر تكثيفه علمياً -رحمه الله- التنقيبات الآثارية في الفاو وغيرها من المواقع، وتعزيز منظوره بأدق إجراءات الفحص والتحقق التي مكنته -رحمه الله- من شق دروب جديدة تثري البحث الآثاري الميداني مرجعياً من ناحية، وفصله منهجياً بين بنية منظوره المفاهيمية الحقيقية وعشوائية التنظير الجامح التي قد يأويها، وفرص النظر المحتملة الجانحة التي قد تعتريه من ناحية أخرى.
وعند هذه المرحلة من استواء المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري على الجودي استطاع -رحمه الله- متأثراً بنشوة النجاح بعد بلاء حسن التحليق بزملائه وطلابه على حد سواء في فضاء آثاري رحب ربط فيه -طيب الله ثراه- بين المفاهيم الآثارية الكامنة المطلقة والديناميكية النسبية التي يتألف منها هذا المنظور من ناحية وبين الحدس المحض ووسائل النظر الموضوعية التي شكلت في نهاية المطاف العلامة المنهجية الفارقة للبناء الفلسفي للمنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري من ناحية أخرى.
وقد لعبت تلك العلامة الفارقة في الساحة الأكاديمية الآثارية دوراً حيوياً فاعلاً مكٌن -في رأيي المتواضع- المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري من اشتقاق السرديات الآثارية المحكمة التعميمات التنظيرية الصادقة التي أخضعها -رحمه الله- عبر منظوره لفرص التكذيب البوبري متجاوزاً بكل كفاءة واقتدار فرص البرهان الكووني المعطل لصيرورة المنجز الآثاري البشرى المأمول.
ونتيجة لتلك السرديات المتسقة مع صيرورة المنجز الآثاري من ناحية وتناغمها مع منطق الكشف العلمي البوبري من ناحية أخرى، اكتسب المنظور الآثاري لمدرسة الأنصاري زخمًا ديناميكيًا متجدداً يأبى الجمود والتسطح وأفقية الطرح والتقليد الأعمى غير الواعي وعقدة النقص والترهل المعرفي والخذلان الفكري. وهي أمور ساعدت بكل تأكيد ذلكم المنظور في هذه المرحلة المتقدمة من استقرار النوى به على نقل أصوليات السرد الآثاري وتطبيقاته من مرحلة المعلومات إلى مرحلة المفاهيم، وليس ذلك فحسب بل ومن مرحلة التعميم الاستقرائي إلى مرحلة التعميم الاستقراء- استدلالي الموحد ديدن الفكر المعاصر ومنهجه العلمي الرشيد. ولهذا تفرد هذا المنظور نظرياً وتطبيقياً وتميز عما سواه في قدرته على تحويل الحقائق الآثارية غير المنظمة عبر التبويب والتصنيف والقياس إلى حقائق منظمة استقراها -طيب الله ثراه- موظفًا منظوره الآثاري، وخبراته الإدراكية، وحسن حدسه، ودقة رصده، ومشاهداته الثاقبة للأحداث التاريخ آثاريه. وليس ذلك فحسب بل جانس -رحمه الله- بين منظوره الآثاري وأطر الحقائق والقرائن الجائزة التي وظفها -رحمه الله- لتقرير مدى ملاءمة سيناريوهات النظر المفترضة لنماذج المحاكاة القبلية المحتملة للهيئة الميدانية التنقيبية التي تقتضيها البنية الإجرائية للمنظور الآثاري لمدرسة الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الطيب الأنصاري -رحمه الله.