عبدالمحسن بن علي المطلق
في تقرير يشرح الصدر، والخاطر معاً ما يجعلنا نتمخطر بما حوى في جنباته، (حول) ما يقدّم للحرمين، في بلادٍ يحمل قائدها لقباً هو من قال عنه إنه به يتشرّف.. ويزهو (خادم الحرمين)، وذلك ما أخذ بلبابي ما تقدّمه «رئاسة الحرمين»، وللحرم المكي الذي سُلط ضوء التقرير عليه، لما أحسبه من الأهميّة بمكان موضوع (التعقيم) الذي بدون مداراة لا تجده تحت مجهر الاهتمام عدا في جنبات المستشفيات وعموم المراكز الصحية تباعاً ولا غرابة لأنها تقوم بهذا دفعاً- أو حتى تخفيفاً- من الأوبئة التي تترصّد المرضى، لأن حالتهم تحتاج لوقاية مُساعدة، أي خلاف الوقاية (المعتادة) بأي جسم، وعلى هذا، ومما لا يخفى أن «بيت الله الحرام» عُرضة أكبر من أي تجمّع آخر، لأن عمّاره (ضيوفٌ) من كل حدب وصوب إليه ينسلون، ما جعل للتعقيم والذي (يقوم بالإبادة الشاملة للجراثيم، مع التخلص من أشلائها)، كعملية إزالة أو قتل مظاهر الحياة للكائنات الحية الدقيقة، وتشمل البكتيريا والفيروسات.. إلخ، كأوّل الأدوات، وأيضاً أهم روافد الوقاية، وبالتالي لا عجب أن يمسي أحد مناشط «الرئاسة»، وهي إدارة أقامتها الدولة، ثم جعلتها مربوطة مباشرة بالملك، أي ليس لأي وزارة فضلٌ عن إدارة لها مرجعية عليها.
وكما جاء خبرٌ، صُحب بتقرير حول هذا، نقلاً عن (واس) يدور حول التعقيم الذي هو من اللوازم بمكان، فضلاً أنه مطلب سماوي نزل على خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام {أن طَهِّرا بَيْتِيَ..} بصيغة أمر(1).
ويجدر الإشارة بأن في وله {أن طَهِّرا بَيْتِيَ} مما لا شك به أن الطهارة لها دلالتان معنوية كما قال مجاهد وقتادة: (من الشرك، وكذلك مادياً) وقد جمعهما أستاذنا الدكتور خالد السبيت في درس له حول هذا، أن.. (التطهير للبيت ليس من الشرك فقط، بل يطلب تطهيره من كل دنس حسياً ومعنوياً، فيطهر من الشرك، ومن الآثام ومن الإلحاد فيه، ويطهر من القذر والنجاسات والأذى، كل هذا داخل فيه، وعلى رأس ذلك الشرك).
على رويّ هذا، وانتهاجاً لذلكم الفعل نجد أن إدارة الحرمين لا تألو جُهداً في هذا، كسبب رئيس واقٍ بإذن المولى تعالى من أوباء لا شك تواجدها حالٌ واقع، ما لها من الله دافع.. سوى بالتخلّص منها أوّلاً بأول..
وهذا ما يجعل من عملية التعقيم ورديفتها- المباشرة- النظافة تجري في أروقة الحرم على قدم وساق.. بل تلفاها في المواسم على وجه مضاعف، ثم يزداد ذاك العمل ضُعفاً.. كلما تقترب من الكعبة والصحن تابع، ولا حاجة للتسبيب، فسوى أن ذلكم آتٍ امتثالاً لأمر الله- كما تقدّم-، لأن فـ{طَهِّر} هي (فعل أمر) مبني على حذف النون وألف الاثنين فاعل، وبما يناسب أنها كسابقتها {وَاتَّخِذُواْ}، أن الواو عاطفة اتخذوا فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة.. فإنه ومن التبعية نحن بهذا مطالبون (2)، ففي إشارة من البيان الحكيم حين أُمر الملائكة بالسجود لآدم، انسحب الطلب لأقلّهم منزلة إبليس، بدون ذكر ذلك فأقول بهذا إثباتاً، عدا أنه لا حاجة للتذكير بأن ضيوف بيت الله المحرّم أنهم - وهم يتوافدون من رجاء المعمورة - قدموا من بيئات مختلفة.
فمما لا بد من إيراد جزئية مما تقدّمه الرئاسة، لأنه (لا يشكر الله من لا يشكر الناس)، كذا وجّه الحبيب صلى الله عليه وسلّم، للثناء عليه هذا الصنيع (3)، والتي - بالمناسبة- إدارة أقامتها الدولة، ثم جعلتها مربوطة مباشرة بالملك، أي ليس لأي وزارة فضلٌ عن إدارة حكومية مرجعية عليها، وهذه لها من عمق الدلالة ما لا يخفى..
فحول تعقيم الحرم..، ومتن التقرير».. كثفت الهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين أعمال غسل و(تعقيم) المسجد الحرام.. «إلخ، فليس بكثير الـ(150) ألف لتر من المطهرات لإنفاذ مشروع ذلكم، ولكن الذي أطرني لتسطير شيء من التعليل لهذا في التالي:
يمر على «بيت الله» عوالم وجنسيات فضلاً عن أقطاب من الشرق والغرب، فمنهم- بالتأكيد لا أُعمم - ما قد يعلقه أو جسده مما لا يمكن أن يتتبع المرء حاله، وقد يصطبغ بغيره (بفعل الزحام)، أو وهذا آكد ما يصل حين يماسّ الكعبة والحجر الأسود منها، ومع أسباب أخرى مما يستوجب (التعقيم) بين فترة وأخرى، بل كل ساعة إن حصل، ولا عجب..
فالله أمر منذ أبانا إبراهيم عليه السلام {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}26آية سورة الحج، وينسحب الطلب من بعده على كل القائمين لتجهيزه لضيوف بيته..
والعجيب أن هذا سُطر بسورة الحج، وكأن ذاك الموعد أكد أن يتم به التطهير، وقد أزف مقدمهم، بقوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشهَدُواْ مَنَفِعَ لَهُم} (27) سورة الحج، وكذا -وللِهِ المثل الأعلى- نحنُ نفعل.. إذا ما جاس بيتنا ضيوف، إن ضربنا لذلك موعداً، وما نقوم به إزاء استقبالهم، حين نعدّها قبيل تحرّي مقدمهم استعداداً، ويزداد الحرص كالحال مع من دعوه لوليمة ولا ندع وضعية (غرفة) الضيوف على ما كان من سابق العهد بها، حتى وإن كنا ضامنين نظافتها، إلا أنه لا بدّ من (المراجعة)، هذا وأُثبت اللفظة الأخيرة، لأني آنفُ من مفردة «التشييك»، والتي اتخذت في كثير من تعبيراتنا سبيلاً عجباً.(4).
فما مُكرراً أن ما تقدم براحه من خبرٍ لا أحسبه بداعاً، أو حتى جديداً، لأن بلداً يحمل قائدها مسمّى عزيز المقاصد (خادم الحرمين) وثير المغازي..يجعل من تحته لا يتوانون عن هذه الصنعة الشريفة بحق.. وربي.
بالمناسب فـ(الشريفة) هذه نجد ديننا يذهب لجلائها بأسمى مما تعارفنا عليه من مدلول، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلّم (.. واعلم أن شرف المسلم قيامه الليل)، وهذه الدلالة قد لا لأن هذه الدلالة الباسقة لا تلفى من وعيه منصبّ على مكتسبات على الحياة قد بلغها.
ولا شك فإن أعظم العزّ هو خضوع وجهك للذي (سجدت له وجوه الإنس والجان..)(5).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتقي الأرض بوجهه قصداً، بل إذا اتفق له ذلك فعله..
ولذلك فقد سجد صلوات ربي عليه والسلام (6) في الماء والطين..(7)
فالتعقيم الذي يتلاحق به سدنة بيت الله كل جوانبه وكافّة أروقته، وبالذات المطاف وفوق تلكم الكعبة التي تاجها «الحجر الأسود» هو من اللوازم، ولا حاجة للتسبيب، ففي ثنايا المادة ما وافى من إيراد بعض.. لا كل الأسباب، فـ.. شكراً لمن خبتت له كل أعضائنا، ولم تسمد، وانثنت في خضوع كافّة جوارحنا، ولم تحد، ثم لحكومتنا وأخص منهم القائمين على بيت الله.. مبتهلاً أن يزيدهم ربي، وداعياً أن يمدّهم بعون منه، فلكم هم بحاجة لذلكم، وإلا....
إذ لم يكون من الله (عون) للفتى
فأكثر ما يجني عليه اجتهاده
(1) هناك أمر مباشر، ثم يأتي ما يندرج تحته -حسب الصياغة-..ترغيباً أو تحبباً، مثل حديث(نِعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل).
(2) على قاعدة « الطلب من الأعلى يستوجب الأدنى»، ولهذا نجد عند المحدثين أحياناً إذا ذكروا جملة رواه البخاري.. ما لا يحتاجون ذكر الرواة الآخرين لأن وجود الأعلى يغني عن وجود الأدنى» وهذه للعلم قاعدة وهاك للتقريب وأخذاً من التوجيه التربوي ما ينبئ بلا ذكر أن قيام والدك- مثلاً- لاستقبال ضيف، عليك فعل ذلك أنت ما لا حاجة أن يُطلب منك.
(3) نعي مطلب الشكر.. ولو من بعض فهمنا لحديث (من صنع إليكم معروفاً..).
(4).. فسوادها في تسطيرنا شاهر اليوم.
(5) ولكم أحسن الشاعر يوم قال:
وليس لي مطلب سوى رضى من
سجد لعظمته وجوه الإنس والجانُ
(6) لا بأس بهذه الصيغة، لكن لا تُتّخذ شعارًا عند أهل العلم، أي لا تكون عادةً لكن بعض الأحيان.
(7) ملمح عن لذّة هذا -السجود- بقول مسروق لسعيد بن جبير «ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له»..