محمد سليمان العنقري
أيام قليلة تفصلنا عن نهاية العام الحالي الذي لم يكتف فيه العالم بحجم أزماته الممتدة من أعوام سابقة، كالحرب الروسية الأوكرانية المستمرة لقرابة عامين دون بارقة أمل بتوقفها وإيجاد صيغة لحل سياسي لها، أو معركة البنوك المركزية الكبرى مع التضخم التي لم تصل لنهايتها، فبعد سلسلة طويلة من رفع أسعار الفائدة وتراجعات بنسب التضخم إلا أن كبار مسؤولي تلك البنوك في أميركا وأوروبا ما زالوا يرون أن الأثر لم يصل لكل مفاصل الاقتصاد، فسوق العمل ما زال قوياً ونسب البطالة منخفضة والمدخرات جيدة ونسبة طالبي الاقتراض ليست مرتفعة، فالمستهلك ما زال مرتاحاً لحد معقول. ويضاف لكل ما ذُكر الأزمة المستجدة في الشرق الأوسط المتمثلة بحرب الإبادة التي يقوم بها الكيان الإسرائيلي على قطاع غزة والتي بدأت تشكل مخاطر بالمنطقة مع طول مدتها وفظاعة جرائم الإسرائيليين بحق سكان غزة المدنيين.
فالعالم ومنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 وهو غير مستقر اقتصادياً بسببها، فقد أوجدت الدول الكبرى حلولاً لها لكنها زرعت بذوراً لأزمات جديدة تتمثل بارتفاع الديون عالمياً حيث وصل حجمها مع أزمة كورونا في 2020 وما تبعها من إجراءات إلى 300 تريليون دولار لتصبح أخطر أزمة يمكن أن تواجه العالم لو انفجرت لأي سبب، فالضخ المالي الهائل من الفيدرالي الأمريكي وكبرى البنوك المركزية في أوروبا وآسيا مع خفض لمدة طويلة لأسعار الفائدة غذى شرايين الاقتصاد العالمي بتضخم يحتاج علاجه لسنوات لن تكون قصيرة، حيث تضخمت أسعار الأصول بشكل كبير في أغلب دول العالم خصوصاً الأسواق المتقدمة، فلم يعد هناك أرقام تاريخية لمؤشرات الأسواق لم تكسر ويتم تحاوزها وعلى رأسها مؤشر داو جونز الأمريكي الذي حقق أرقامًا غير مسبوقة بتجاوزه حاجز 37 ألف نقطة، ولا تختلف بقية الأصول بالعالم من حيث تضخم الأسعار كالعقارات وغيرها من السلع مثل السيارات والسلع الفاخرة والذهب وأصبح الواقع الحالي كأنه سياق طبيعي لهذه المستويات المرتفعة من الأسعار لكن سياسات البنوك المركزية المتشددة والتي وإن كان أثرها بطيئاً قد تكون سبباً بدخول كبرى اقتصادات العالم بركود أو نمو ضعيف جداً في العام القادم، فقد أخطأت بتقديرها للتضخم قبل أكثر من عامين وكذلك بسياساتها السابقة بالاعتماد على سعر فائدة منخفض وتيسير كمي ضخم وكأنها اتبعت سياسة الهروب للأمام لمعالجة تحديات اقتصادات دولها لكن في الوقت ذاته كان ينظر دائماً لهذه السياسات بأنها تراعي الجانب السياسي أكثر من الاقتصادي خدمة للأغراض الانتخابية للحكومات أو الأحزاب الحاكمة، وهو ما أدخلها بدوامة من الأزمات خلال مدد قصيرة نسبياً، ففي الأزمة المالية العالمية قبل خمسة عشر عاماً طالب كبار الاقتصاديين في الغرب أن تترك الأسواق لتصحح نفسها حتى تبدأ دورة اقتصادية جديدة على أسس صحيحة وأن لا تتدخل الحكومات لوقف التصحيح حتى لا تخلق أزمات جديدة. وما حدث أن التدخل الرسمي كان كبيراً وتظهر آثاره حالياً، فلم يصل الفيدرالي الأمريكي لمرحلة من التشكيك بدقة سياساته كما هو حالياً منذ تأسيسه، فأي أزمة اقتصادية أو مالية جديدة قد لا تجد تلك الدول حلولاً لها مما سيعني القبول بالأمر الواقع بتصحيح كبير لأسعار الأصول.
أما في الشق المؤثر على الاقتصاد العالمي أيضاً، فإضافة للحرب بين روسيا وأوكرانيا فإن حرب إسرائيل على غزة والتي وإن كانت محصورة بمنطقة جغرافية صغيرة لكن بدأت بعض التداعيات تظهر مع استمرارها لأكثر من شهرين، وحجم التدمير الإجرامي والتهجير داخل القطاع وأعداد القتلى من الفلسطينيين الذي قارب عشرين ألفاً جلهم من الأطفال والنساء مما أدى لقيام جماعة الحوثي باليمن بتهديد الملاحة في البحر الأحمر عبر عمليات قصف واستيلاء على سفن تجارية زاعمين أن ذلك نصرة لأهل غزة حتى تجبر الدول التي تنتمي لها هذه السفن -وهي بالغالب أوروبية- للضغط على إسرائيل لوقف الحرب، وهو الأمر الذي أجبر أكبر شركات الشحن بالعالم لوقف رحلات سفنها عبر البحر الأحمر. وإذا ما طال أمد ما يجري من تهديد في هذا الشريان الحيوي الذي تمر منه 12 بالمائة من التحارة الدولية بالعالم فإن لذلك تأثير على رفع أسعار الشحن وتكاليف البضائع وسلاسل الإمداد بتأخر وصولها مع تغيير طرق الشحن لمسافات أبعد مما سيرفع من التضخم العالمي مجدداً، إضافة لاحتمال التأثير السلبي على إيرادات قناة السويس الحيوية والمهمة للاقتصاد المصري، فهذا العبث بالتأثير على التجارة الدولية في البحر الأحمر لم يوقف الحرب، وقد يعرض اليمن لمخاطر كبير في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون إذا ما قررت أميركا وحلفاؤها الذين شكلت معهم قوة بحرية لحماية الملاحة في البحر الأحمر للرد على تلك الهجمات.
رغم أن العالم استبشر بإمكانية عودة الصفاء والتعاون بين أميركا والصين قبل نحو شهرين لكي تنتهي الحرب التجارية بينهما وكذلك توقف الاستفزاز الأمريكي لبكين بملف تايوان إلا أن الأزمات في العالم مستمرة دون حلول نتيجة لمواقف سياسية من دول كبرى تدعم استمرارها، فما زال الدفع باتجاه استمرار حرب استنزاف روسيا قائمًا، فلا يوجد رغبة واضحة من الغرب بإيجاد حل يوقف الحرب على أوكرانيا، وكذلك منع إصدار أي قرار من مجلس الأمن لوقف الحرب في غزة عبر الفيتو الأمريكي، ولذلك فإن العام القادم سيمثل تحدياً كبيراً أمام الأمم جميعًا والقوى الكبرى تحديداً.
في عودة الهدوء والاستقرار للعالم أو مزيد من التصعيد بالأزمات والذي قد يخرج عن السيطرة، لكن الأقرب هو الاتجاه للتهدئة ووضع أرضية لحلول الأزمات خصوصاً مع قرب استحقاقات مهمة تتمثل بالانتخابات الرئاسية في أميركا والتي يفترض أن يدخلها الديمقراطيون بإنحازات تخدم الاقتصاد ونجاح سياساتهم الخارجية خصوصاً بعد تراجع شعبية الرئيس بايدن حالياً وعودة الرئيس السابق ترمب للواجهة كأقوى المرشحين المحتملين للفوز مجدداً بالرئاسة.