د. محمد عبدالله الخازم
وهذه حكاية أخرى من حكايات الوظيفة. كنت أستاذاً متحمساً، سنة أولى أكاديميا، اقترحت تنظيم رحلة إثراء علمية لطلابي من الدمام إلى الرياض لزيارة بعض المؤسسات المميزة ذات العلاقة بتخصصنا. رحب عميد الكلية بالفكرة وخاطب شؤون الطلاب/ صندوق الطلاب للحصول على الدعم اللازم باعتبارها نشاطا طلابيا، وحصلنا على سلفة، 15 ألف ريال، لتغطية تكاليف السفر والسكن والأكل. فرح الطلاب بالفكرة، فاقترحوا أن نذهب بسياراتنا بدلاً من الطائرة لتكون ليس مجرد رحلة علمية بل شبه (كشتة) برية. كان السكن في شقق مفروشة بدلاً من فندق؛ شباب لا يبحثون عن الرفاهية. كانت رحلة فريدة يذكرها بعض طلابي كقصة جميلة، ويذكرها مسؤولو الكلية كمعاملة إدارية (تروى)، فكيف ذلك؟
بعد العودة من الرحلة، رفعت التقرير مع (شيك) بالمبلغ المتبقي، نصف السلفة تقريبا حيث لم نسافر جواً أو ندفع أجرة سفرنا، كما كان مقرراً. التقرير حوى فواتير البنزين والأكل والسكن، إلخ. يبدو أنني كحديث العودة من البعثة متأثر بتجربتي الخارجية، كانت معاملاتي مع سكرتيرة القسم مباشرة بمجرد تقديم الفواتير لها، توقعت ذلك ما سيحدث هنا. ذهب التقرير فعاد للكلية بأسئلة عديدة؛ لماذا تكتب بعض الفواتير باللغة الإنجليزية؟ لماذا لم يرفق محضر استهلاك وجبة بالنسبة للوجبات؟ لماذا تم السكن في عمارتين أسعارهما غير متساوية؟ مع تذكيرهم بأن الدكتور لا يحق له الاستفادة من مصاريف الرحلة حيث يحصل على انتداب خاص به (تخيلوا الإيموجي المناسب هنا)!
أعددت ردي، شرحت بأنه يصعب علينا إحضار فواتير جديدة، من غير المعقول أن أعود لمحطات الطريق بين الدمام والرياض لأطالب عمال أجانب بفواتير باللغة العربية، واعتذرت عن محضر استهلاك وجبة فليس لي خبرة بهذا الأمر، إلخ. ذهب الرد فلم يقنع القائمين على صندوق الطلاب فجاء ردهم، مكررا؛ وحسب التعليمات وحسب الأنظمة، إلخ.
اقترح عميد الكلية؛ أحضر فواتير من إحدى المحطات/ المطاعم المجاورة للجامعة وخلص نفسك، لماذا تعقد الأمور وهي سهلة، كما قال. وعاتب (خبير) لماذا تعيد المبالغ، مكتب التذاكر ممكن (يضبطها) لك. لم تعجبني الاقتراحات، كتبت شيكا بمبلغ (15 ألف ريال) للجامعة وأرفقته بخطاب معتبر بكامل تكاليف الرحلة هدية مني لطلابي، وإعادة كامل مبلغ السلفة وكأنها لمن تكن، مع التقدير. تصعدت الحكاية ووصلت وكيل الجامعة ثم مديرها فأصبحت سيرة في الجامعة، يتذكرني بها الموظف الإداري فيخاطبني؛ أنت صاحب السلفة! رُفض تبرعي للجامعة؛ ربما تم اعتباره (استفزازاً) أو (سذاجة) أكثر منه خير أقدمه!
الإشكالية التالية كانت في تقدمي باستقالتي بعدها بأشهر وموضوع السلفة ما زال معلقاً، خطاب يذهب وخطاب يأتي وكل خطاب يستغرق وقتاً طويلاً. هذا أمر اعتدناه في الجامعات، تعقد المجالس وتحرر الخطابات بشكل عاجل إذا كان الأمر يخص كبار القوم أو يتضمن عقوبات فقط. وكم من مجالس عقدناها بشكل عاجل أو بالتمرير، وفق التوجيهات!
بعد استعطاف لم تقصر إدارة الكلية بتوقيع إخلاء طرفي بغض النظر عن تلك المعاملة، فهي خاصة بصندوق الطلاب ولا تعنيهم. لم أغير موقفي، لم يقبل تبرعي ولم تنه المعاملة. غادرت الجامعة، وبعد أشهر بشرني عميد الكلية الجديد - ضاحكاً - بأننا أخيراً قفلنا موضوع سلفتك. سألته، كيف؟ أجابني: ما هو شغلك!
هل تكررت الرحلة الطلابية؟
لا أدري، ربما، لم يفعلها الزملاء حين يتذكرون قصة زميل لهم اتسم (بالبراءة) فيقولون: يالله السلامة، هذه (دوشة) ما لنا فيها. عزيزي الأكاديمي، ابتسم أنت في الجامعة وأضف إلى وصفك الوظيفي مهارة إعداد محضر استهلاك وجبات (الفول والرز البخاري)...