حامد أحمد الشريف
عندما قرّرْت قراءة كتاب «مرَّ من هنا»، الصادر عن منشورات جدل السعوديّة، بالقطع المتوسّط، ويربو عدد صفحاته على الـ120صفحة، لم أكن أعرف كاتبه الذي بدا مجهولًا حتّى لدار النشر ووزارة الإعلام، ولعلّي أقع، ولأوّل مرّة، على هذه النوعيّة من الكتّاب غير المهتمّين بالشهرة، نظرًا لاكتفائه باسمه الأوّل، «غازي»، هذا إن لم يكن اسمًا مستعارًا... وأنا أقف على ذلك، خطر لي أنّه لربّما كان يعاني هو الآخر من اضطرابٍ نفسيّ، كجميع أبطاله، كما وصفهم في مقدّمة الكتاب؛ فبعض المبدعين، ولأسبابٍ غير معلومة، لا يحبّون الظهور وتدوين أسمائهم على إبداعاتهم، وقد لا يُكشَف سرُّهم إلّا بعد وفاتهم؛ ولكنّ «غازي»، أيضًا ليس من هؤلاء، فهو ينشر إبداعاتِه ويتحدّث عنها، ولكن دون إلحاقها باسمه الحقيقيّ.
إنّ هذا النهج المختلف يدفعنا للتساؤل إن كان صاحبه يفتقد للثقة بنفسه، ويريد لنتاجه، المشكوك في قيمته الإبداعيّة، أن يشقَّ طريقَه وحده، دون أن يتأذّى منه... حتّى إذا ما ثبتت جدارتُه، أزاح الستارة عن هويّته وأظهرها أمام الجميع، مستثمرًا نجاحه. ولكن، كما أسلفت، لا تبدو لي هذه القراءة لنفسيّة الكاتب مقنعة إذا ما عدنا إلى مقدّمته المليئة بالتناقضات، فهو يخبرنا أنّه وُلد ليكون كاتبَ قصّة رغم فشله في كتابة الرواية والمقال، كما أنّه يُهدي العمل لمن آمنوا بموهبته قبل ولادته... وكلّ هذا يشير بوضوح إلى أنّنا أمام صراعٍ نفسيّ حقيقيّ، لم تسلم منه هذه المخطوطة ولا حتّى الغلاف الذي حمل بدوره تناقضًا مستفزًّا، من خلال الاستفهامات التي أثارها وهو يصوِّر، تحت عنوان «مرّ من هنا»، رجل مطموس الهويّة يمرّ بلجّةٍ سوداءَ تُغيِّب الطريق. ومع أنّ العنوان يشير إلى الأثر الذي يتركه البعض ويخلِّد ذكرَهم، فيُقال عنهم أنّهم «مرّوا من هنا»، إلّا أنّ ذلك لا ينسجم مطلقًا مع كلّ هذا الغموض الذي يُظهره التصميم؟! وهو ما يدفعنا للاعتقاد أنّ الغلاف أيضًا يأتي في سياق الاضطراب الإبداعيّ الذي عاشه المؤلِّف، وسيعيشه كلّ من يوقعه حظه (الجيّد) في أتون هذا الكتاب.
كان ذلك ممّا حفّزني لمحاولة فهم نمط تفكير الكاتب نفسه، قبل كتاباته، وهو، يقينًا، يختلف عن «إحسان عبدالقدوس» صاحب مجموعة «بئر الحرمان» التي أشار إليها المؤلِّف وبيّن أنّه يحاول اقتفاء أثرها؛ وكان «عبدالقدوس» قد خصّصَ تلك المجموعة القيِّمة للحديث عن خمسة نماذج من الاضطرابات النفسيّة التي قد نجدها في محيطنا البشريّ، وتقمّص فيها دور الطبيب النفسيّ أو الأخصّائي النفسيّ الذي يتابعها، ويحاول فكّ شفرتها وحلّها. وكان الاختلاف كبيرًا بينهما؛ فإحسان - كما هو معلوم - لا يكاد يُخفي شيئًا من شخصيّته في كتاباته، حتّى أنّه يُهمل، في سبيل ذلك، اشتراطات القصّة القصيرة التي تفرض عليه تغييب نفسه، بينما صاحبنا «غازي» يختفي كلّيًّا؛ ما يعني عجزنا عن إدانته أو تبرئته من الاختلال النفسيّ الذي وضعه إطارًا محدّدًا لكلّ قصصه. فيكون الفيصل بيننا هو هذا الكتاب الذي نستطيع من خلاله التعرّف على بعض ملامحه ومحاولة رسم صورة تخيّليّة له.
وقد انتهينا من حكاية الكاتب الذي خلق بؤرة اهتمام قد تجيَّر لصالح العمل، لا بدَّ لنا من الاعتراف بأنّنا أُجبرنا على تنحية نظريّة «رولان بارت» في «موت المؤلِّف»، واستحضرناه معنا، بل وأحييناه حياةً سرمديّةً بين أحرفه وكلماته. ولعلّنا نُعذر في ذلك، فهو مَن أقحمَنا في هذا الحضور، وكان البُعد النفسيّ مرافقًا لنا، من البداية، في نصوصه الإبداعيّة، حيث استوقفنا في أولى قصصه «العجوز والبحر والرجل» التي وَضَعت مقاربةً بين الشابّ «فاضل» الذي يطلق عليه اسم «فيديل»، والعجوز «مدام ليلى»، وحديثهما المضطرب حول نوفيلّا «العجوز والبحر» للكاتب الأمريكي «إرنست همينغوي»، ومقاربتها بين الرئيس الكوبي الراحل «فيديل كاسترو» الذي كان رمزًا للمقاومة، وبين بطل القارب «سينتياجو»، وصولًا إلى عصب الحكاية الذي يَظهر في نهايتها المدهشة، عندما يتبيّن للمرأة العجوز أنّ الرجل بعد حصوله على الجنسيّة الأمريكيّة، استطاع العودة إلى وطنه الذي طُرِد منه، في إشارةٍ إلى الأزمة الأزليّة التي يعاني منها «البدون» في دولة الكويت، وأفرزت لنا الكثير من النتاج الإبداعيّ السرديّ. ومع أنّ فكرة الحكاية تبدو مستهلَكة، إلّا أنّها تميّزت بزاوية رؤية إبداعيّة أصيلة، أوقفتنا على الاضطرابات النفسيّة التي ظهرت في سلوك الرجل، وكذلك العجوز، وأنتجت لنا ذلك المشهد الجميل الذي جمع بينهما، مقدِّمةً لنا قصّةً قصيرة جميلة ورفيعة المستوى، تنبئ بالحِرَفيّة العالية التي تنتظرنا ضمن هذه المجموعة الإبداعيّة.
وفي القصّة الثانية، «قلبٌ تحت النصل»، لم نبتعد كثيرًا عن الخطّ الذي وضعه كاتبنا لحكاياته، فالبطل يعاني أيضًا من اضطرابٍ نفسيٍّ يجعله يتوهّم محبّة النساء له، مؤوِّلًا تصرّفاتهنَّ الإنسانيّة معه، ليحاسبهنّ بعد ذلك، وكأنهنّ ارتبطن به بعقدٍ أبديّ، بطريقةٍ تشي بشيءٍ من الجنون. والجميل في هذه القصّة، وقوفُها على حقيقةِ أنَّ أغلب البشر يعانون بالفعل من اضطراباتٍ نفسيّةٍ، بدرجاتٍ مختلفة، تخلق الكثير من ردود الفعل غير المبرَّرة، وأنّ علينا، إن أردنا السلامة لأنفسنا، معاودةَ التفكير في ذلك، والوقوف أمام هذه الاضطرابات ومعالجتها مبكِّرًا، قبل أن توصلنا إلى ما لا تحمد عقباه… وكان السرد جميلًا وتسارعُه منتظمًا، عبّرَ عن الصراع المستهدَف، بعباراتٍ مختزَلةٍ ومكثّفة، جمعت بين عدّة مستوياتٍ للقراءة، يمكن رصدُها، وتميّزت بالجمال والإتقان اللذين ننشدهما، لتأتي الخاتمة المدهشة وتكمل حلقات هذا الإمتاع الكتابيّ. وبدا أنّ الكاتب يبتعد شيئًا فشيئًا عن الاضطراب النفسيّ الذي اعتقدْتُه فيه.
بينما لم تكن قصّة «دعجاء وخفشاء» تتحدّث عن فقهاء اللّغة، وإصابة بعضهم بالاضطراب النفسيّ نتيجة اهتمامهم المرَضيّ بالأخطاء التي يقع فيها المتكلِّمون، كما يظهر من سياق السرد، أو لنقل، من مستوى القراءة الأوّل؛ فالحكاية أعمق من ذلك بكثير، وتدور حول رجلٍ يعاني من اضطرابٍ نفسيّ حقيقيّ يجعله غيرَ قادرٍ على تمرير الأخطاء على وجه العموم، وهؤلاء بالفعل نلتقيهم كثيرًا، ونتعامل معهم، ونظنّهم متحذلقين، يؤمنون بأهمّيّة اللّغة ويُسقطون من يسقطها، بينما هم مصابون باعتلالاتٍ نفسيّة، استخدموا اللغة كمتنفَّس ليعبِّروا من خلالها عن هذا الاضطراب، وأتت النهاية المدهشة لتؤكِّد ذلك، عندما وجدناه يتخلّى كلّيًّا عن اللّغة العربيّة ويشتمهم باللغة الانجليزيّة قبل مغادرته.
وفي قصّة «حرب التطهير» التي ظهر من خلالها وكأنّه يصف حربَ غزّة الأخيرة وما يفعله الصهاينة المجرمون بالفلسطينيّين، نجد أنّه قد أجاد في وصف نفسيّة الفتى الذي فقدَ فجأةً كلَّ شيء، ولم يبقَ له غيرُ تجرُّعِ ألمِ الوحدة بعدما قتلَ العدوّ كلَّ أحبّته وأقربائه، بما في ذلك والده ووالدته وإخوته... فيعتصر الألم نفوسنا، ونتعاطف بشدّة مع الفتى ظنًّا منّا أنّ الحكاية تتحدّث عن فلسطين، لنُفاجأ في النهاية بأنّ الراوي المتكلِّم لم يكن غيرَ «أبو بريص» أو «وزغ»، يندب حظّه العاثر بعد أن أصبحت حياتُه كلُّها رهينةَ ما قام به جدُّه، عندما نفخ في النار التي أُشعلت لحرق سيّدنا إبراهيم، كما يُعتقد... ولعلّي أقول هنا إنّ العمق الذي أرادته هذه القصّة الإبداعيّة، يشير بلا جدال ولا نقاش إلى أنّنا غالبًا ما نعيش حياةً لم نصنعها بأيدينا، وإنّما صنعها غيرُنا، والتزمنا بكلّ ما أرادوه لنا، أو لعلّنا نقول، إنّ بعضا يظلُّ يعاقبنا على فعلٍ لم نرتكبْه، أو يحاسبنا على قرارات لسنا معنيّين بها، كما يحدث في فلسطين الآن، فأهل غزّة في كلّ الأحوال ليسوا أصحاب القرار، وإن آمنوا به؛ ويقينًا لم يختاروا الواقع الذي يعيشونه، بينما العقاب يطالهم هم أوّلًا، فيما قد ينجو منه المقاومون في الميدان الذين لا تصل إليهم أيدي العدو؛ وهي الحال التي تشبه، إلى حدٍّ ما، ما يمرّ به أيٌّ منّا عندما يضطرّ لدفع ثمن صنيعِ غيرِه ما امتدّت به الحياة.
ولئن بدت فكرة قصّة «لم أختر أبي» متداولةً ومفهومةً من العنوان، إلّا أنّ الكاتب، من خلال الزاوية الإبداعيّة التي اختارها، بدأ يقنعني برجاحة عقله وسلامته، وكأنّه استخدمها من أجل ذلك. في هذه القصّة الجميلة ذكرَ مهنة والده التي قد يكون من الطبيعيّ أن يستعرَّ منها، رغم كلّ ما يقدّمه له والده، وكيف أنّ ذلك تسبّب في اضطراباتٍ نفسيّة عانى منها، وتأثّرت بها علاقاته مع محيطه. وانتظرَ وصولَنا إلى النهاية ليخبرَنا بأنّ الوالد «مهرِّج» أو «أرجوز»، مظهرًا لنا سبب سوء علاقة الابن بأقرانه، وحتّى بأمّهاتهم، وارتيابه من تصرّفاتهم جميعًا، وتأويلها بطريقةٍ خاطئة، معتبرًا، بدون وجه حقّ، أنَّ مهنة والده هي سبب معاناته وانصراف الجميع عنه؛ بينما كان سبب معاناته الحقيقيّة، عدم تقبُّلِه لواقعه، وعدم التفاتِه إلى الجانب المشرق لدى والده.
كان السرد شائقًا بالفعل، ومستوى القراءة الأوّل غنيًّا، ولاسيّما في قصّة «وتزوّجتُ أمّي» التي حملت، كبقيّة القصص، مستوياتٍ قرائيّةً متعدّدةً، ناقشت بأسلوب مبتكَر وأصيل مشكلةَ الزواج في الوقت الراهن، وصعوبة الاجتماع بين شخصَيْن متطلّبين، لكلٍّ منهما شخصيّته ومنهجيّته في الحياة، ويبحث عمّن يتواءم معها؛ فالمرأة العصريّة لم تعد قادرة على رأب الصدع والتضحيّة كما كانت تفعل النساء سابقًا، بل تضع نفسها على قدم المساواة مع الرجل، حتّى إنّها قد لا تتنازل له مطلقًا، ولعلّ ذلك هو أبرز أسباب شيوع الطلاق وتفشّي أمره، ولقد حاولت الحكاية نقاش هذه الظاهرة الاجتماعيّة من زاويةٍ مختلفة، تتعلّق بالبُعد النفسي، ليكون ذلك هو الخيط الإبداعي الذي يربطها بباقي قصص المجموعة. فكان ممّا قالته في مستويات قراءتها المتعدّدة، أنّ بعضَ الأزواج يلجأ إلى تخطئة الطرف الآخر وينسى نفسه؛ ظهر ذلك في القصّة من خلال شابٍّ يعاني في حياته الزوجيّة، وغالبًا ما ينتهي مشروعه بالفشل بسبب اضطرابه النفسيّ وظلمه لزوجاته الثلاث. وهو ما جعل الطبيب، في نهاية القصّة المخاتلة، يتّهمه بالسّفه حين امتدح سلوك والدته مع والده، ورفض هذا السلوك نفسه من زوجته الأخيرة التي شابهت والدته، بل وتربّت على يديها؛ وهو ما يشير إلى الإشكاليّة الحقيقيّة المتعلّقة باضطرابه، بعد أن عاش صراعًا كبيرًا، تمحورَ حول قناعتِه بأنّ تصرّفات زوجاته تشبه ما كانت تفعله والدته بأبيه من جهة، واصطدامِه برفض عقله الباطن لهذه السلوكيّات من جهةٍ ثانية، رغم استسلامه ظاهريًّا لها، بسبب علاقته القويّة بوالدته وحبّه لها. وهو ما يعيدنا إلى العنوان، «تزوّج أمَّه»، لنفهم منه أنّه في كلّ مرّة يتزوّج إحدى نسخ أمّه التي لا يطيق تصرّفاتها، ويكون مجبرًا على رؤيتها في كلّ النساء اللائي يرتبط بهنّ، في وقتٍ لا يتقبّل رفضها بحكم أنّها والدته التي يحبّها، فيضيع بين الرفض والقبول.
في «كرسي المطار» نجد الحكاية نفسها تتكرّر مع أصحاب البدون الذين ضاقت بهم الأرض بما رَحُبَت، ومفارقة قبولهم والترحيب بهم إن عادوا إليها بجنسيّةٍ أخرى. وهي المفارقة التي يعيشها المواطن الكويتي، الذي يتمتّع بكامل حقوقه إن تخلّى عن بلده وحمل جوازَ سفرٍ مميّزًا. ورغم تكرار هذه الفكرة التي ظهرت في قصّة «العجوز والبحر والرجل»، إلّا أنّ المؤلِّف أبدع في تقديمها بطريقةٍ مختلفة، وبرمزيّةٍ إيجابيّةٍ معتدلة، حيث لم يتطرَّق للبدون مباشرة، وإنّما أشار إليهم بعدد أوراق الجواز، واستخدام اللون الأسود برمزيّته القاتمة التي تشير إلى عمق ألم الإنسان وحرقته عندما يعاني الغربة في وطنه. وقد أبدع في انتقاء زاوية تسليط الضوء بشكلٍ يؤكّد لنا أنّنا نستطيع من خلال الزوايا الإبداعيّة مناقشة الأفكار نفسها دون خطأ السقوط في التكرار.
ومع قصّة «غبار وصدأ» نجد المباشرة المستهجنة في طرح الفكرة ونقاشها، فهي تتحدّث عن إهمال المكتبات والاستغناء عنها، واستبدالها بالمقاهي التي انتشرت انتشار النار في الهشيم، متطرّقةً لسلوك البشر عندما لا يرحمون انكسار بعض الناس، ويسعون لاستثماره لصالحهم. ومع ذلك، لا يمكننا إنكار إبداع المؤلِّف في طريقة عرضه للفكرة، بحيث تستحوذ على إعجاب القارئ بمستوى قراءتها الأوّل، فهي تبثّ فينا الحنين، وتشعرنا بالغصّة، وبالألم الذي ينتابنا كلّما استعدنا الماضي.
مرض التوحُّد، والعنف الساديّ، كانا محور الصراع في قصّة «خدوش على ظهري». ناقشه المؤلِّف بأسلوبه السرديّ الجميل، وقدرته على الابتكار في عرض فكرته، وهو يقدِّم البطل في قالبٍ مختلف لا يخلو من الإثارة والتشويق، مع الاحتفاظ بالنهاية المخاتلة، وهي المزِيّة التي وجدناها في مجمل القصص.
وكان جميلًا أيضًا توقُّف السارد في قصّة «عطسة» أمام حبّ بطل الحكاية لمشاهدة أفلام الحركة والرعب، حتّى تهيّأ له أنّه يعيش بالفعل إحدى هذه القصص المرعبة، ليكتشف في النهاية أنّه ذهب ضحيّة ببّغاء يقلِّد صوت العطسة. ولعلّ ذلك الموقف «الكوميدي» يعيدنا للسؤال الأزليّ: هل الرعب إحساسٌ حقيقيّ يرتبط بمؤثِّرٍ خارجيّ، أم هو مجرّد انعكاس لإحساسنا بالرعب في دواخلنا ولا يحتاج لأيّ مؤثِّر؟!
ولعلّ أجمل ما في هذه المجموعة هو توظيفها للحالة الاجتماعيّة التي يعيشها أغلبنا وينسج منها حكاياتٍ إبداعيّة. تكرّر ذلك في معظم القصص، كقصّة «بيت في الخالديّة» التي حاولت إعادتنا إلى العاطفة المستغلّة في هضم حقوق الآخرين، وأوقفتنا على واقعٍ نعيشه وندفع ثمنه باهظًا عندما نتنازل عن حقوقنا وقت سقوط خصومنا وضعفهم، أوحتّى وفاتهم، بينما كان ينبغي الحرص على القصاص العادل، وعدم الاندفاع بسذاجة خلف استثمار بعضهم لحالة الضعف التي تعتريهم وتدفعهم لطلب الصفح والعفو عن الجرم الذي ارتكبوه وقت قدرتهم وقوّتهم وبطشهم. أظهر المؤلّف ذلك عندما تعامل بطل حكايته مع الموقف بحزم، وتناولَه كصفقةٍ تجاريّة لا علاقة لها بالعواطف، مطالبًا خصمه ببيت الخالديّة، مقابلَ عفوه عن والده الذي يعاني سكرات الموت، لكونه ظلمه وقت قوّته.
هذه القضايا الاجتماعيّة التي تناولتها المجموعة وجدناها أيضًا في قصّة «بيضاء تُسرّ الناظرين» التي وُظّفت للحديث الأزليّ عن العنصريّة اللونيّة، وإن أتت عليها من باب حفظ النسب؛ فهل كان محقًّا في ذلك؟! في ظنّي، إنّ تكافؤ النسب، بالأخصّ في ما يتعلّق باللون، وإن كان قد اشتهر به العرب، واحتكموا إليه في تزويج بناتهم، إلّا أنّه - كما قالت الحكاية - لا أصل له في شرعنا، بدليل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِن ْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13)
وفي قصّة «بين الثلاثة»، نجد المؤلِّف يطلعنا على ثلاث زوايا مختلفة لرؤية الموقف نفسه، باختلاف الأشخاص الذين ينظرون إليه. وكان فيها إشارة ذكيّة إلى أنّ الحقيقة ليست مطلقة، إذ يعتقد كلّ واحد أنّها ملكه وحده. أتت هذه القصّة الإبداعيّة لتأخذ بأيدينا وتدفعنا للنظر إلى الموقف من زاوية الآخرين، حتّى لا نصطدم معهم، ونتفهّم موقفهم.
ولكم كان الموقف الذي عايشناه في قصّة «طاولة ميامي» حزينًا وجميلًا ومبهجًا في آن، كما كان أصيلًا في فكرته والزاوية التي بُنيت عليها؛ فالموت، بالفعل، لا يأتي بغتةً دائمًا، بل إنّه، في كثيرٍ من الأحيان، قد يأتينا بلاغٌ صادقٌ بهذا الموعد، لكنّنا، للأسف، لا نصدّقه، ونستخفّ به، محوّلين الحديث عنه إلى نكاتٍ وضحك، كما فعل بطل قصّتنا عندما أخبرته ابنته بدنوّ أجلها ولحاقها بوالدتها، فلم يصدّقها، وتركها تغادر بدون وداع، بالضبط كما فعل بوالدتها. وهو ما يحدث دائمًا عندما نتجاهل الإشارات التي تحاول إطلاعنا على المستقبل، ونشتكي لاحقًا أنّنا أُخذنا على حين غرّة... وقد أظهر السارد كلّ ذلك في حلّةٍ قشيبة تُمتع الأنظار وتأخذ بشغاف القلوب.
وتكرّر الأسلوب نفسه مع قصّة «كلّ البياض» التي أوقفتنا على مفارقةٍ جميلةٍ ونهايةٍ مخاتلة، واستطاعت إنطاق بطل القصّة من متلازمة داون أو الأطفال المنغوليّين، متجاهلةً عدم قدرته على التواصل الجيّد مع محيطه، وانحصار تواصله في الابتسام والتحدّث بصعوبةٍ عن أشياءَ هامشيّةٍ جدًّا؛ في وقتٍ لا يُحسن هو أو غيره التحدُّث عن معاناته والحالة النفسيّة التي يعيشها، أو عن علاقته بأقرب الناس إليه، مثل أمّه؛ لقد جعلته هذه القصّة يزيح الستار عن الصلة العميقة التي تربطه بمجتمعه، وتصوِّر هذه المعاناة بأدقّ تفاصيلها.
وكانت العاطفة الجيّاشة التي تجتاح أغلب النساء، وتتحكّم في قراراتهنّ، وتقلِّل من قيمتها - خلاف تغيُّرها بسهولة - موضوعًا لحكايةٍ جديدة في قصّة «لم أقتله» التي صوّرت لنا العاطفةَ بصدقٍ متناهٍ. ولعلّ أجمل ما أخبرَتْنا به حديثُها عن قوّة الرجل وكيف تُضعف المرأة، بينما ضعف الرجل يقوّيها، وهي الثنائيّة التي تشكِّل علاقة الجنسين، ويمكن أن نعزو لها فشل العلاقة أو نجاحها؛ ما يعني أنّ الصورة التي كانت عليها الزوجة إنّما هي انعكاسٌ لما يفعله زوجها، أو أنّه بدأ يحصد نتيجة غرسه السيّئ. لتأتي النهاية المخاتلة وتخبرنا أنّه عندما أضعفها مجدّدًا، وأخضعها لسلطانه، ذهب بعدها لإكمال مشروعه، بالزواج من أخرى. قصّة جميلة، مختزَلة ومكثّفة، تصوِّر حال أغلب الأزواج الخاضعين لزوجاتهم، اعتقادًا منهم أنّ ذلك يُنجح العلاقة. بينما تشير الحكاية إلى عكس ذلك، معتبرةً أنّ استعادة الرجل لقيمته ومكانته هو الطريق الأسلم كي تستعيد المرأة قيمتها ومكانتها، وأنّ تبادل الأدوار يوشك أن يقضي على العلاقة.
ولقد كان الكاتب مقنعًا تمامًا في قصّة «أندر تيكر» في قوله إنّ العقل الذي رمز إليه بالمحقِّق الخيالي «شارلوك هولمز»، يفوق قوّة الجسد التي رمز إليها بصورة المصارع الأمريكي الشهير «أندر تيكر»؛ فكاد ارتهان البطل للجسد ومحاولته تقليد «أندرتيكر» في صراعاته ومنازلاته، رغم ضعفه وضآلة جسده، يقضي عليه... ففارق الإمكانيّات الجسديّة يصعب التغلُّب عليه، كما تخبرنا الحكاية المسرودة، بينما استطاع الانتصار في أوّل معركة يخوضها، عندما احتكم للعقل الذي يشكِّل القوّة الحقيقيّة، وهو ما استطاعت القصّة إيصاله في لقطة النهاية المخاتلة الجميلة.
«بني داكن» تُعَدّ القصّة الأولى في القسم المخصَّص لقصص الأطبّاء، أخبرتنا أنّ التريُّث هو سيّد الحلول، وأنّ بعض الطرق توصلنا إلى النهاية التي نبحث عنها، رغم عدم منطقيّتها. وحذّرتنا من مغبّة الوقوع في حفرةٍ جديدة، إن لم ننتبه جيّدًا للطريق الذي نسلكه، وأخبرتنا أيضًا أنّ تجنّبنا الطريق الذي سقطنا في إحدى حفره لا يعني بالضرورة نجاتَنا، فكلّ الطرق لا تخلو من حفر، وسنقع في غيابتها إن لم نحتط لذلك… لعلّ هذه القصّة هي أدسم القصص، إذ تُظهر الأبعاد الإنسانيّة والاجتماعيّة التي توقعنا في بعض السلوكيّات السيّئة، مهما كان مستوى تعليمنا وثقافتنا، وتحاول إفهامنا أنّ الفرق في ما بيننا ليس في التعليم والمهنة التي نزاولها، أو المكانة الاجتماعيّة التي نتبوّأها، وإنّما في القناعات الحياتيّة التي نعتنقها، وهو ما يدفعنا للضحك كثيرًا ونحن نقف على سلوكيّاتٍ غبيّةٍ يقترفها أناسٌّ نظنّهم أذكياء.
وفي قصّة «حادث مظلم» نجد القاصَّ يحدّثنا عن فوبيا الظلام التي تجعل الشخص يفقد البصر لفترة بسبب الهلع أو الخوف الذي يعتريه. وهو ما كان من الطبيب الذي انتابته هذه الحالة بعد التماسّ الكهربائي الذي أصابه وقت استخدامه سخّان القهوة. ويظهر هنا أنّ المغزى العميق من القصّة - إن صدقَ حدسي - يمكن حصره في الاضطرابات النفسيّة ا لتي لا تخلو منها حتّى الطواقم الطبّيّة، وربّما تنعكس على أدائهم، وهو ما يعني أنّ الأطبّاء ليسوا منزّهين عن الوقوع في الأخطاء التي قد تكون جسيمةً بسبب اعتلالاتهم النفسيّة، ويتضرّر منها المرضى.
إنّ المفارقة التي حفلت بها قصّة «رصاصة في اليمين» تدعونا للتوقُّف والتأمُّل، وتكاد توصل لنا إحساس طبيبٍ وجد في لحظةٍ غريمَه الذي لطالما تمنّى موته، مسجًّى أمامه، بين الحياة والموت، وعليه إنقاذ حياته. وتترك لنا السؤال حائرًا يبحث عن إجابة؛ مَن سينتصر في لحظةٍ كهذه، قَسَم الطبّ أم نزعة الانتقام؟! وبعيدًا عن نهاية القصّة التي لن أفصحَ عنها، فإن سؤالًا كهذا لا يمكن الإجابة عنه طالما يتوقّف القرار على أبعادٍ نفسيّة تختلف باختلاف القناعات، والأيديولوجيّات، والثقافات، والحاضنة الاجتماعيّة... وهي زاوية إبداعيّة رائعة، تبصِّرُنا بالمواضع الصعبة التي تحتاج إلى قرارٍ معيّن منّا، نختلف كثيرًا حوله.
وتأتي القصّة الأخيرة، «مراقب وطبيب»، فتأخذ بأيدينا للتعرُّف على جنون الارتياب والاضطهاد الذي يعاني منه أحد الضبّاط بعد عمله في مباحث الآداب لفترة طويلة. وهو ما نكتشفه مع العبارات الأخيرة التي ترسم النهاية المخاتلة للقصّة؛ فكلّ ما كان يقوله المريض للدكتور إنّما هو ظنونٌ غير حقيقيّة، نتيجة تأثّره بالواقع الذي يعيشه مع الخيانات التي يقف عليها، أو مع مجون النساء العاهرات، ومرتادي مواخير البغاء اللائي يصادفهم. وكما هو معلوم، مَن يعايش مثل هذا الواقع السيّئ قد يشعر أنّه لا خير في الأمّة مطلقًا، وهو ما كانت تهدف إليه هذه القصّة الجميلة.
وحفاظًا على الموضوعيّة، لا بدّ أن نشير إلى أنّ بعض القصص لا يمكن الوصول إلى مغازيها، كـ»قارعة الطبول» و»المصعد» و»جثّة المجنونة». ووجدت أنّها بحاجة لمعاودة قراءتها، والتمعُّن أكثر في معانيها، لعلّي أصل إلى مراميها الخفيّة. وهو ما حدث مع «جثّة المجنونة»، حيث أشارت القصّة حتّى ما قبل النهاية ببضع كلمات، إلى أنّ الطبيب سيقتل العجوز، لنتفاجأ بقتله امرأةً مجنونة صادفوها؛ ما أوقعنا في حيرة إن كانت المجنونة تنتظر العجوز لقتلها أم هناك فهم آخر؟! إنّ مثل هذه القصص الملغَّزة مجهِدة للقارئ، وينبغي على الكاتب أن يعيدَ النظر فيها.
ومع وصولنا إلى النهاية نصل إلى حقيقة أنّ الكاتب، وإن تعمَّدَ إخفاء هويّته الحقيقيّة، كان أقرب إلى الفلسفة منه إلى الجنون والاضطراب النفسيّ، ولعلّه أراد بهذا التخفّي المقصود، إيصال قناعةٍ يؤمن بها، وأظهرتها قصصه، ومفادها أنّه علينا البحث عن القناعات، واختبارها، واعتناق ما يقنعنا منها، دون ربطها بأصحابها؛ فالفلسفة الحقّة «قادرة وحدها» على شقّ طريقها وعدم الاتّكاء على هويّة صاحبها.