مشعل الحارثي
ونحن نحتفل بسيدة اللغات، لغتنا العربية في يومها وعيدها العالمي، ترى هل ما زالت تمثل لساننا وكياننا ولغة بيتنا العربي؟ أم أنها تشظت وتردت وانداحت وأصبحت اليوم اللغة الأقل استخداماً في العالم بعدما كانت من أكثر اللغات السامية استخداماً وأكثرها انتشاراً وتمدداً ومحط انظار الثقافات والحضارات الأخرى، كونها لغة العلم والثقافة والأدب منذ عشرات القرون، ولغة أكثر من مليار عربي ومسلم في العالم.
أقول ذلك بعدما غيبت لغتنا في مكانها وانحسرت من لسان أهلها، وظهور لغة هجينة موازية مهلهلة مكسرة تختلط فيها الكلمات المتعددة والدخيلة والرطانة، وأصبحت هي المستخدمة في حياتنا وتعاملنا اليومي سواء في أسواقنا ومطاعمنا أو في أماكن الترفيه والمهرجانات وصالات المطارات، وفي مؤسساتنا الحكومية وتعاملاتنا التجارية حتى مع السائق والعاملة المنزلية الذين أجبرونا لنتحدث معهم بلغتهم لا بلغتنا، لتأتي العولمة والشبكات العنكبوتية ووسائل التواصل الحديثة كثالثة الأثافي لتسلب لساننا العربي المبين ونجد أننا نقف أمام حرب جديدة تسللت إلينا بكل هدوء وسلاسة مرتدية جلباب العصر الحديث بعد ما نال لغتنا العربية الأصيلة وطوال العصور الماضية من حملات مستميتة تلقتها من الشرق والغرب لؤدها وجعلها خارج معادلة اللغات الحية بدءًا من حملات التتار والمغول ثم الحملات الصليبية والعثمانية وصولاً للحملات البريطانية والأمريكية التي نجحت في تغييب اللسان العربي الفصيح لصالح اللغة الإنجليزية لتصبح اليوم هي لغة العالم الأولى والحاضرة في كل مجال وميدان.
وكم تغنى بجمال هذه اللغة العربية ومخزونها المعجمي وتراثها الضخم وشهد بمكانتها الفريدة وثراء مفرداتها عدد كبير من الباحثين والدارسين المنصفين من غير أهلها وناطقيها، فهذا المستشرق الفرنسي المهتم بدراسة اللغات (رينان) يقول: (من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى حد الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، ولم تعرف لها في أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأن حالها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة حيث ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة كيانها دون شائبة). إذا كان هذا الاعتراف بزمانها القديم فكيف بأحوالها اليوم.
وإن كانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) اختارت لغتنا العربية ضمن لغة العمل بها، ومن ثم إقرارها ليوم سنوي عالمي للاحتفال بها إلى جانب اللغة الإنجليزية والروسية والإسبانية والصينية والفرنسية التي خصصت لها هي الأخرى أيام سنوية للاحتفال بها من بين (4) آلاف لغة حول العالم، وما يمثله ذلك من اعتراف بقيمتها ومكانتها الفريدة بين لغات العالم، فهل يجعلنا ذلك ننتظر منها أيضاً أن تهب لنجدة لغتنا وتعمل على تشذيبها مما حل بها ودخل عليها من شوائب والانتصار لها في صراعها في حرب اللغات المستمر من أجل بقائها بعد أن ثبت للعالم بأنها لغة متطورة قادرة على استيعاب لغة العلم والتطور التكنولوجي دون أن يكون هناك عناية واهتمام متكامل من أهلها وأصحاب القرار المؤثر في هذا الشأن، والحرص التام على تقاسم المسؤولية التشاركية من كل المستويات المجتمعية لمحاربة العجمة في اللغة، وتوثيق صلة الأجيال بلغتهم الأم وتعريفهم بمنابعها القيمية والأخلاقية السامية مع العمل بكل جد وثقة لتكون لغتنا العربية أقرب ما تكون إلى صورة العالم الأكثر تطوراً وانفتاحاً في ظل هويتها وجذورها العريقة الثابتة. أقول ذلك وأنا على يقين تام بأن أي أمة تفرط في لغتها ولسانها حتماً ستفقد معه روحها وشخصيتها وهويتها، وستتلاشى منجزاتها وتضيع في متاهات صراع الأمم والشعوب والحضارات.