د.فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح
[تابع لسابق]
وأقول تعقيباً: هل نقد المنهجيَّة لا قيمةَ له؟ وهل نقد مخالفة المنهجيَّة لا قيمةَ له؟ إذن ما حكم ما يذكره الفاحص المحكِّم نفسه من النُّقود المنهجيَّة على البحث المحكَّم؟ ألها الحكم عينة؟! وأمَّا كونه عامّاً إذا كان ظاهراً بيِّناً في الكتاب، وهو شائع فيه، ومعه البيان المصدِّق لذلك فهو نقد وافٍ ومقبول، ولا بأس بالنَّقد العامِّ، وله قيمة وثقل، وأمَّا كونه رأياً شخصيّاً إن أراد أنَّه ملكٌ للشَّخص فنعم هو له ومنسوب إليه، وإن أراد أنَّه ذوقيٌّ لا علميٌّ فلا، إذ النَّقد المذكور مُبَيَّنٌ فيه الخطأ ومذكور صوابه، والنَّقد الشَّخصيُّ والذَّوقيُّ يكون إذا بني على لا ينبغي ذلك أو لا يعجبني ذلك، ولا أحبُّ ذلك، ولا أحبذ= أمثال هذه الأفعال هي ما يسمَّى بالحكم الذَّوقيَّ أو الذَّاتيَّ للشَّخص، وأمَّا إن أراد بالشَّخصيِّ أنَّ النَّقد صائر لأنَّ المنقود فلان عينه، ولو كان غيره لما كان ذلك، فهذا يصدَّق بدليله، ولا دليلَ عليه بالنَّسبة لما انتقدتُه، بل الاحتكام لمواضع النَّقد ولبيان صوابه.
وإذا كان ذلك كذلك فالنَّقد بالشَّخصيِّ بلا دليلٍ وهو من النَّقد الشَّخصيِّ!
[عدم تلمُّس الوجه والأخذ بالشُّبهة انتصاراً للمنقود إذا اشتهر]
وقوع الازدواجيَّة من بعض الفاحصين، وهي الانقلاب من أقصى اليمين مع المنقود إلى أقصى اليسار مع النَّاقد، وذلك بتكلُّف تلمِّس المخارج للمنقود، وعلى النَّقيض من ذلك مع النَّاقد فيتلمَّس مثالبَ للطَّعن والرَّدِّ لنقده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك بالتَّعويل بالنِّسبة إلى الرَّدِّ على النَّاقد بمثل قول: (كأنَّ الباحث النَّاقد وقع في تناقض/ هذا اضطراب عند الباحث/ يظهر أنَّه تكلُّف للنَّقد لا نقد) ومثل ذلك، وأمَّا بالنِّسبة لنصرة المنقود فبمثل قول: (ليس مراده كذلك/ كان مقصده غير ما ذكره النَّاقد/ انخدع النَّاقد بظاهر العبارة)= والحقيقة أن لا تناقضَ ولا انخداع، ولكنَّ الأمر ميلان مع هذا وانحياز إليه، وانتقاض أو انقضاض على ذلك ومجافاة عنه.
وأقرِّب المسألة أنَّ سيبويه لا يستشهد بالحديث، وقد قرَّرتُ ذلك في بحثٍ لي في موضع، وذكرتُ في موضع آخر أنَّ سيبويه أورد خمسة أحاديث أو تسعة أو ...، فقام الفاحص المحكِّم بأن ذكر أنَّني وقعت في تناقض أو كأنَّني وقعت فيه، والحقيقة أن لا تناقض، بل ما جاء من عدِّي لها أحاديث هو تنزُّلٌ بحسب مَن عدَّدها أنَّها أحاديث عنده، ثُمَّ اختلفوا في عدَّتها عند سيبويه، ولو نظر في سياق كلامي لعلم ذلك، لكنَّما هو كما قلتُ: لقوم درء بالشُّبهة، ولقوم طعن بالشُّبهة، وإلَّا فالَّذي يريد أن يروي الحديث ويستشهد به فذلك منه بيِّنٌ، إذ الحديث عند إيراده له طريقه في إسناده وفي عرضه تختلف عن رواية غيره من نثر أو شعرٍ، وسيبويه لم يورد ما أورده من ذلك إيراد الأحاديث، بل ساقه سوق كلام العرب، وسيبويه لا يجهل إيراد الأحاديث، ولا هو مطعون بديانته، وفوق ذلك هو قد درس الحديث قبل تحوِّله إلى دراسة العربيَّة، وعليه فما أورده في كتابه أوردها شواهد لم يوردها أحاديث.
[انتقادُ ورودِ مراجع في الهامش ليست مع قائمة المراجع]
لعلَّ ألطف ما وقع لي ممَّا لقيته من الفاحصين والمحكِّمين أنَّه مرَّة أورد عليَّ أنَّني عدَّدت ذكر كتبٍ في هامشٍ من الهوامش ولم أذكرها في ثبت المراجع والمصادر لذلك البحث، وإن كان هذا الانتقاد ليس ذا أهميَّة، لكن لتطريف الحديث ذكرته، ولا يعدم الإنسان في كلِّ موقف من التَّذكير بفائدة.
وأقول: ممَّا هو معلوم أنَّ ثبت مصادر البحث يذكر فيه ما كان منه البحث مستفيداً لا الباحث؛ إذ الباحث يطَّلع على كثيرٍ من الكتب والمراجع، ويرجع إليها تهيئة ومهاداً لكتابة بحثه، غير أنَّ ما يدوَّن في قائمة المراجع والمصادر في البحث هو ما كان البحث آخذاً منه بألفاظه نصّاً، أو آخذاً منه مع تغييرٍ بألفاظه، ومعلوم طريقة توثيق كلِّ واحدٍ منهما.
وأمَّا ما يُعدَّد في الهوامش من كتبٍ وأعلامٍ ونحوهما فلا يذكر في ثبت المراجع والمصادر ولا في الفهارس لو كان المصنَّف كتاباً لا بحثاً، اللهمَّ إلَّا إذا كان العمل في الكتاب تحقيقاً، والمحقِّق قد ذكر تحريراً وتدقيقاً لأشياء في هوامش الكتاب المحقَّق، فإنَّ بعض المحقِّقين يصنع لتلك التَّدقيقات والتَّحريرات فهرساً رغبة في جمعها للفائدة.
[التَّوهين بالتَّعميم]
ممَّا لاحظته على بعض الفاحصين المحكِّمين أنَّه إذا تنصَّب أحدهم في موقع المنافحة، إذ به يجنح بأن يُظهر دفوعاتٍ لا تحكيم بحث خصوصاً إذا كان البحث المحكَّم في نقد بحثٍ أو دراسةٍ أو كتاب، وإذا عميت الدُّفوع التجأ إلى التَّعميم بوصم البحث النَّاقد وما فيه من نقود بغير العلميَّة.
أقول: هذا من المحكِّم نقدٌ مندفع وغير ناهض إذا لم يبيِّن مواضع غير العلميَّة، والعلميَّة هي الموضوعيَّة، والدِّقة، والمنهجيَّة، وبناء على ذلك فعليه أن يبيِّن مواضع خروج البحث عنها، وإذا البحث النَّقديُّ يدور في فلكها فليس له أن يصمه بعدميَّتها، ووصمه لهذا النَّقد بها غير واصم، بل عنه مرتفع ومندفع، ويصبح هذا الوصم لا قيمة له، وإنَّما أعوزه إليه قلَّة الحيلة بالدَّفع عن المنقود، وينقلب الوصم بغير العلميَّة على نقده وحكمه، ويكون هو الجدير بالوصف بها. [متبوع]