د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
يأتي هذا اليوم المبارك (17 ديسمبر) في كل عام ليكون يوم توقف نتأمل لغتنا العربية وننظر في حالها، والناظر اليوم المتأمل يرى كثيرًا من المسرات وما يشرح الصدر ويبهج النفس ويسر الخاطر، من ذلك ما يلمس من إقبال عالمي على تعلمها؛ إذ نجد معاهد تعليم اللغة العربية منتشرة في العالم الإسلامي وغيرها، وكان لبلادنا الكريمة قصب سبق في فتح معاهد لتعليم اللغة العربية في بلاد كثيرة، ونجد كثيرًا من الجامعات في العالم تخصص أقسامًا لتعليم العربية، وربما جعلت بعض البلدان تعليم العربية إلزاميًا، ونجد في بلدان من يكتب بالعربية، فمن كتاب الرواية في نيجريا من كتب روايات بالعربية، وأما العالم الإسلامي فإقباله على العربية في الغالب لوازع ديني، وأما غير المسلمين فقد يكون دافعهم تجاريا أو ثقافيا أو سياسيا، ومن الأمور السارة أن العربية أخذت حيزًا في الشبكة العالمية بمحتواها، وسهلت الشابكة لهذه اللغة أن تصل إلى مريديها في كل مكان، ومن المفرحات أن العربية الفصيحة وإن لم تسلم من الأخطاء هي لغة نشرات الأخبار والمقابلات الجادة والحوارات الثقافية والسياسية والاجتماعية، وترى أن كل قول يراد له أن يظهر بمظهر الجد وأن يكون له صفة العموم يساق بلغة فصيحة، ولكن في المقابل يجد الناظر في حال العربية اليوم ما يسوؤه بعض السوء، فأبناء العربية أنفسهم ربما أظهروا ازورارًا عن تلقي اللغة تلقيًا يكفل لهم قدرًا مناسبًا من السلامة، إذ تراهم عاجزين عن التعبير بها تعبيرًا شافيًا، عاجزين عن الكتابة بها كتابة وافية بأغراض ما يرمون إليه، ومن المزعجات أن ترى لغتهم هجينة فليست بالعربية الخالصة ولا هي بالأجنبية الخالصة، ولا هي الفصيحة الخالصة ولا العامية الصافية؛ بل هي خليط من هذا وذاك، وتجد فقرًا معجميًّا فلا يكاد المستعمل يتجاوز أليفاظ وكلمات قليلة إن هي ووزنت بالثروة اللغوية التي تركها لنا الأجداد، وربما تفوقت العاميات في كثرة مفرداتها ودقة تعبيراتها، ومن المزعجات ترهل اللغة التي يستعملها المعاصرون في لغتهم المعاصرة فغادروا إيجاز اللفظ الفصيح إلى تراكيب فيها من الترهل ما فيها، كأن يقولوا (أما بالنسبة لما يتعلق بالقضية) وكان يجزئهم أن يقولوا (أما القضية)، وأسرفوا في استعمال (من خلال) وهم يريدون حرف الجر الباء، وأمثلة ذلك كثيرة ليس هذا مجال حصرها، ومن المزعجات تهاون الكتاب في سلامة لغة ما يكتبون، فصدرت الروايات الكثيرة والدواوينالمختلفة وهي لا تسلم من أخطاء نحوية وإملائية وتركيبة وكتابية، وليست المشكلة في وقوع الخطأ بل التهاون في أمره وعزوف الكاتب عن مراجعة ما يكتب، والأدهى أن يغيب عنه أنه أخطأ، ومن الأخطاء ما هي دقيقة قد تخفى على المتخصص في اللغة، ومن المزعجات ما نراه من نشوء أجيال بين ظهرانينا لا يتكلمون العربية، وإن تكلموا بها فكما يتكلم الناطق بغيرها تكلمًا سقيمًا، هؤلاء أبناؤنا جنى عليهم أهلهم أن ألحقوهم بالمدارس الأجنبية وحاصروهم ببيئة أعجمية جعلتهم جزيرة أعجمية في بحر عربي، ومن المساوئ ما جلبته علينا التقنية الحديثة من جوالات وحواسيب أخملت أيدي أبناء العربية باعتمادهم على الكتابة بها واستعمال مفاتيحها، فلا يكادون يخطون بأيديهم حرفًا، فإذ كتبوا رأيت كتابة رديئة لا تكاد تحسن قراءتها، وقديمًا كان يوصف من كان خطه رديئًا بأنه يكتب كأثر النمل في طريقها، ولكن هيهات أن يقال ذلك اليوم؛ فالنمل تفوقت طريقه على خطوط الناس اليوم، وصار من المألوف أن يأتي الطالب الجامعي إلى قاعة الاختبار فيتبين له أنه لا يحمل قلمًا، فيعود للبحث عن قلم، وصار كالذي يسعى إلى الهيجا بغير سلاح، وتأمل جيوب الشباب اليوم قلما تجد من يحمل قلمًا في جيبه، ومنذ القدم أضر الإنسان بنفسه من حيث أراد نفعها، فأضعف جسده باعتماده على الأدوات وأضعف ذهنه باستعمال ما ينوب عنه بالأداء، أذكر أن الباعة في بلادنا يبيعون ويحسبون في أذهانهم المسائل الحسابية، يجمعون ويطرحون ويضربون ويقسمون في يسر وسهولة، وما عاد الناس اليوم يستطيعون ذلك من غير الآلة الحاسبة.
ونحن حين نشير إلى ما في لغتنا اليوم من مظاهر الضعف ربما يتجه اللوم إلى المعلمين واللغويين والنحويين، وليس هذا من العدل في شيء، ولامن الحكمة في مكان، فهؤلاء مثل الأطباء يشخصون الداء ويصفون الدواء ويعلّمون الوقاية، وهم مثل الوعاظ المرشدين إلى الصلاح؛ ولكنهم لا يكفلون صلاح الناس، كما أن الأطباء لا يكفلون سلامة مرضاهم إن لم يكن منهم مبادرة إلى التقيد بالتعليمات والمداومة على الوقاية، وأما اللغة فلها شأن آخر غير شأن الصحة والمرض أو غيرها من ألوان النشاطات الاجتماعية التي يحتاج إليها المجتمع فيكون الفرض فيها فرض كفاية، لأن اللغة ملك لكل أفراد المجتمع وكل فرد منتج لها مستعمل، ومن هنا فأمر الاحتفاء بها والاهتمام وبذل الغالي والنفيس في سبيل تقويمها وتعزيزها وتقويتها وسلامتها كل ذلك فرض عين على كل متكلم بها إن كانت تعنيه لغته ويدرك أنها علَم هُويته ولسان حاله وحافظة تراثه وثقافته، ومن هنا كان الاحتفاء بها ألزم من الاحتفال الطارئ بها، وعلى كل فرد أن يبذل ما في طاقته من إصلاح لغته هو ومن إرشاد غيره إن استطاع، وعلى الأسر واجب يقتضيه أبناؤهم وهم الأمانة بأعناقهم أن يعلموهم العربية في صغرهم التعليم الصحيح، وللتعليم ومشكلاته أن يجد حلولًا ناجعة، إذ من الخير أن نركز الانتباه في بداية التعليم على مهارات اللغة من قراءة وكتابة وتكلم وفهم، ولا نخلطها بغيرها، ولا نضيق الوقت المقرر لها، ولا بد من العناية بالتدريب فلا يركن إلى الواجب المنزلي؛ لأنه ربما لا يكون صادقًا، فلا يسلم من الضعف الإنساني الذي قد يجعل الكبار ينوبون عن الصغار في أداء الواجب؛ لذلك يجب تقسيم اليوم المدرسي قسمين: قسم تلقين وقسم تدريب يشرف عليه المعلمون إشرافًا مباشرًا، ولتحقيق الجدوى من ذلك ينبغي أن تقلل أعداد طلاب المعلم فلا يكلف المعلم أكثر من عشرة طلاب، وينبغي ترك أمر التعليم الأوّلي للتنجيم الحتمي، أي إن النجاح لا يكون في آخر السنة بل يكون على طريقة الإجازة القديمة، فالطالب الذي تستحكم مهاراته ينتقل، ومن تكل أدواته وتضعف إمكاناته يبقى حتى يستوي على سوقه، ومتى اكتملت المهارات أمكن تعليمه من العلوم الأخرى ما به حاجة إليه، ولابد من التعليم الأوّلي أن يتحرى ميول الطالب واتجاهه ومهاراته فيوجه في وقت مبكر إلى ما ينفع المجتمع. وغاية ما نسعى إليه أن نحتفي باللغة لا أن نحتفل بها.