د. عبدالحق عزوزي
رأينا في إحدى المقالات السالفة أن الفرانكفونية، كما أشار إلى ذلك محمد أديب السلاوي، تحولت في بعض الأحيان إلى خطاب لغوي وسياسي واقتصادي، ينبني على إقصاء العربية، اللغة الرسمية لبعض بلدان المغرب العربي، وتحويل فرضية الإغناء والشراكة اللغوية، إلى مغالطة في جوهرها لأنها ترمي في الحقيقة إلى توفير السبل الكفيلة لضمان تبعية لغوية وثقافية دائمة، فالإثراء والتفاعل يتأسسان على شرط النهوض باللغة الوطنية والحفاظ عليها، ثم تشجيع تعليم اللغة الأجنبية -حسب رغبة المتعلم- لإتقانها كلغة ثانية، وذلك في إطار ثنائية لغوية تتوخى توظيف اللغة الأجنبية في سياقها المعرفي والتواصلي والثقافي.
وفي خضم الجدل الذي تعرفه الساحة الثقافية اليوم، عن مكانة اللغة العربية داخل المحيط التربوي/ الاجتماعي/ اللساني/ الثقافي، وعن منزلة اللغة الفرنسية داخل النسق اللغوي السائد في المجتمعات الحديث، وهي منزلة تحدث بقوة كل المبادرات والمشاريع والرؤى التي اتخذتها بعض حكومات عهد الاستقلال، أحياناً تحت مسمى التعريب، وأحياناً أخرى، تحت مسمى حماية الهوية اللغوية. في خضم ذلك، تحولت الفرانكفونية، إلى ظاهرة معادلة للهوية الوطنية، هدفها المباشر، إفشال كل مشروع يعمل على إعادة اللغة العربية إلى موقعها الطبيعي على أرض الواقع.
وكل متتبع حصيف للشأن اللغوي في دول العالم سيخرج بقناعة أن التعدد اللغوي، لا يمس محتوى اللغة الأم، إذا كانت التشريعات تحفظ مجالات استعمالها وتضبط رسميتها بقوانين زجرية كما هو الشأن في العديد من الدول التي تحترم لغتها الوطنية...
ثم لا بد أن نشير إلى أن الاختراق الثقافي اليوم لا يمكن أن ينجح في ظل العولمة، إلا إذا توفر على مناعة دائمة، عندما يصبح ثقافة جماهيرية، أي عندما تجد الجميع يستهلكها. ولا غرو أن استهلاك الثقافة في مجتمعاتنا المعاصرة له علاقة بالعرض والطلب وبالسوق وبالصناعة الثقافية، بحيث أضحت للثقافة قيمة تبادلية..
ومن البديهي أن وجود سوق ثقافية يتوقف على وجود مستهلك ثقافي؛ كما أن أساس الاستهلاك الثقافي هو توفر القراء والنقاد للأدب والشعر، والإعلاميين والمحبين للثقافة، والصناعة الثقافية في كل المجالات الثقافية: مطابع الكتب ودور النشر والمعارض الفنية التي تمنح الثقافة قيمة تبادلية واستهلاكية إلى غير ذلك. ولله در الأستاذة رحمة بورقية عندما أشارت إلى أن الثقافة المحلية تواجه تحدي العولمة الثقافية جراء تنقل البضائع والسلع والمنتوجات الثقافية عبر حدود الأوطان، داخل عولمة ثقافية قد تجعل تقاليد الأعراس في المغرب تطرب الياباني، والأطباق الصينية تباع في المغرب، والوجبات السريعة الأمريكية تباع في جل بلدان العالم. كل هذا ممكن نظراً لكون الثقافة أضحت مرتبطة بالصناعات التي تحول الأشياء الثقافية إلى بضاعة وما يولده ذلك من انتشار سريع للإنتاج والاستهلاك الثقافيين. ويلاحظ أيضاً في إطار العولمة، نوع من الالتقائية للرأسمال والتكنولوجيا والبضاعة والإعلام. وعندما نتأمل في مبيعات الإنتاج الفني في السوق العالمية، ندرك أن وضع الثقافة مرتبط بهذه الالتقائية مما يؤثر على الثقافة ليجعل مكوناتها تخضع للعرض والطلب. وقد يولد هذا الوضع مثلاً البحث على التجديد المستمر القابل للاستهلاك الثقافي السريع. ولا تفلح في هذا التوجه إلا البلدان التي لها صناعة ثقافية كبرى ولها عدد وافر من المستهلكين للثقافة. فأحد الحواجز التي تعوق التنمية الثقافية دون جعلها جماهيرية في واقع مجتمعنا هي الأمية، لا الأمية الأبجدية فحسب، وإنما أيضاً الأمية الثقافية التي تعكسها المؤشرات حول عدد القراء ومبيعات الكتب. كما أن طرق التلقين ومنهجه الذي يعتمد، في نظامنا التعليمي، على حشد المعلومات التي تجعل من التلميذ خزاناً للمعلومات لا عقلاً يفكر ويرغب في القراءة، ويملك فضول السعي إلى المعرفة الذي يضعه فوق سكة اكتساب الثقافة. كل هذا يجعل الثقافة في بلدنا تحت محك تحدٍّ كبير. مواجهة أي اختراق ثقافي اليوم لا يمكن أن يواجه بخطابات رنانة وبتشخيصات مملة، ولكن بقوانين زاجرة وبسياسات عمومية تؤثر ولا تتأثر، تستوعب ولا تنصهر، تنتج وتستهلك، تصدر وتستورد... العوامل التي تخلق الصناعة الثقافية يجب أن تتوفر في كل مجتمع مغاربي لمواجهة كل آثار طمس الثقافات الوطنية والمحلية لصون الوحدة الوطنية على شاكلة التجربة المغربية، ولتمكين الدولة من إدارة الكيان الاجتماعيوعدم توليد أي ولاءات يمكنها أن تخرب البلاد والعباد.