د. يعقوب آلويمين
علينا أولا الوقوف عند مفهوم جريمة الإبادة الجماعية كما يعرفها القانون الدولي وإسقاط هذا المفهوم على المجازر التي ترتكب يوميا في غزة، مخلفة آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى؛ ثم بعد ذلك تحديد الأدوار التي يلعبها كل مشارك في هذه الجريمة لمعرفة نصيبه من المسؤولية وفقا للقانون الدولي.
أولا: تشمل جريمة الإبادة الجماعية، وفقا لاتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948، مجموعة من الأفعال، المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو اثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه؛ وهذه الأفعال هي: (أ) قتل أعضاء من الجماعة؛ (ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة؛ (ج) إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً؛ (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.
ويقصد بكونها جريمة دولية أن جريمة الإبادة الجماعية ترتكب بناء على خطة مرسومة من قبل الدولة، ويقوم بتنفيذها كبار المسؤولين الرسميين ومعاونوهم ضد مجموعة ترتبط فيما بينها بروابط عرقية أو دينية أو قومية أو اثنية. ويعتبر فقهاء القانون الدولي جريمة الإبادة الجماعية جريمة ضد الإنسانية، ولا يشترط في قيام ركنها المادي أن تكون مرتكبة في وقت الحرب، فهي تأخذ صفتها عند تحقق عناصرها سواء ارتكبت في زمن الحرب أو في وقت السلم.
الجرائم التي ترتكب يوميا ضد الفلسطينيين في غزة هي أعمال وحشية يتم بموجبها القتل الجماعي لمجموعة من الناس دون استثناء لأطفالهم أو نسائهم أو شيوخهم أو مرضاهم الراقدين في المستشفيات. وترتكب هذه المجازر بالمناهج الثلاثة الأولى الواردة في المادة المذكورة أعلاه، وهي: قتل أعضاء من الجماعة؛ وإلحاق الأذى الجسدي والروحي الخطير بأعضائها؛ وإخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، وذلك من خلال منعهم الطعام والشراب والدواء والوقود وجميع مستلزمات الحياة البشرية.
والأساس الذي يتم عليه الاستهداف واحد هو أن المستهدف من سكان غزة. ولا شك أن سكان غزة عبارة عن مجموعة عربية مسلمة مقيمة في حيز جغرافي ضيق لا يتجاوز 360 كلم مربع ويعيش فيه مليونان ونصف المليون شخص، أي بمعدل حولي 7000 نسمة في الكلومتر المربع الواحد. وهذه المعايير الثلاثة هي التي تعبر عنها الاتفاقية عند حديثها عن جريمة الإبادة الجماعية بالقتل على أساس الدين أو العرق أو القومية أو الأثنية. وتجتمع هذه الأسس كلها في حالة غزة، التي يشكل المستهدفون بالعدوان فيها جماعة قومية يربطها أساس الجنسية والمواطنة والاشتراك في اللغة والثقافية، بالإضافة إلى وحدة المعتقد.
يتضح من إسقاط بسيط للمفهوم القانوني لجريمة الإبادة الجماعية على المجازر التي ترتكب في غزة وما يصاحبها من تجويع وتعطيش وتعتيم وحرمان للمرضى من الدواء وحرمان للجميع من وسائل الاتصال بالعالم أن هذه الأفعال تمثل جريمة إبادة جماعية وفقا للتعريف الذي يحدد عناصرها، كما ورد في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبتها، ووفقا كذلك للنظام الأساسي لمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما) التي هي صاحبة الاختصاص في معاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية. لكن هل في استطاعة المحكمة التصدي للعدوان الإسرائيلي؟
ثانياً: إذا كانت إسرائيل بجيشها الذي نفذ وقيادتها التي أمرت هي المسؤولة الأولى والمباشرة عن جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب في غزة، فإن لها شركاء ساهموا في هذه الجرائم كل من موقعه سواء بالمال أو السلاح أو التحريض والتبرير أو الصمت. وقد عرفت الاتفاقية بوضوح دور كل واحد من هؤلاء ونصيبه من المسؤولية.
فقد حددت المادة الثالثة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية ومعاقبتها خمسة أفعال تمثل جرائم إبادة جماعية، هي (أ) الإبادة الجماعية، (ب) التآمر على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ (ج) التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية؛ (د) محاولة ارتكاب الإبادة الجماعية؛ (هـ) الاشتراك في الإبادة الجماعية.
ولا حاجة لدليل قولي مع وجود الدليل المادي للجزم بأن إسرائيل هي الفاعل الرئيسي في جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكب في غزة بارتكابها المجازر الجماعية اليومية التي لا تتوقف ولا تميز ولا تستثني منذ أكثر من شهرين، مما يدل على الإصرار وسبق الترصد على ارتكاب الجرمية ويؤكد توفر ركنها المعنوي، إلى جانب ركنها المادي البادي للعيان ويشاهده ويشهد عليه العالم أجمع.
ولكن لإسرائيل شركاء في جريمة الإبادة الجماعية ضد غزة، يلعبون أدوارا تساهم في تعضيد المجرم واستمراره في العدوان، وتنطبق عليهم الفقرتان (ب) و (ج) من المادة 3 المذكورة أعلاه، أي التآمر والتحريض المباشر والعلني على الجريمة. فبعض مظاهر المشاركة متحقق بالأفعال المجسدة في المساعدات العسكرية والمالية والتخطيط والتحريض. وبعض الآخر من مظاهر المشاركة يتجلى في التحريض والتبرير المعلنين من خلال زعم حق الدفاع عن النفس، وهذا التبرير يعتبر تجسيدا واضحا للتحريض العلني والمباشر على ارتكاب الجريمة.
وهناك أخيرا الشياطين الخرس الذين، وإن لم تتحدث عنهم الاتفاقية، يلعبون دور الصامت عن الحق الذي يشجع بصمته المجرم على المضي في إجرامه، وكما يقال فالصمت علامة الرضى. فهؤلاء وإن لم تتحدث عنهم الاتفاقية ولن تجد المحكمة الجنائية الدولية أساسا لإدانتهم، فإن شعوبهم وضمائرهم والتاريخ سيتكفلون بتلك المهمة.
ثالثا: تنص المادة السادسة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية ومعاقبتها على أن يحاكم الأشخاص المتهمون بارتكاب الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة أمام محكمة مختصة من محاكم الدولة التي ارتكب الفعل على أرضها، أو أمام محكمة جزائية دولية تكون ذات اختصاص إزاء من يكون من الأطراف المتعاقدة قد اعترف بولايتها. وتنص المادة الخامسة من نظام روما على جريمة الإبادة الجماعية تدخل ضمنا في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية. وللمحكمة الجنائية الدولية عند النظر في جرائم الإبادة الجماعية أن تحكم على الجناة بعقوبات تتراوح بين السجن لمدة أقصاها 30 سنة، والسجن المؤبد عندما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة للشخص المدان.
ورغم توفر الإطار القانوني لتجريم الأفعال الوحشية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتوفر الإطار القضائي لمتابعة ومعاقبة مرتكبي هذه الجرائم، التي لا يحتاج إثباتها إلى تحقيق، حيث يشهد عليها العالم بأسره ويعترف بها المجرمون أنفسهم، فإن أي إجراء قضائي ضد إسرائيل وشركائها يعد ضربا من أحلام السلام والعدالة الدولية.
ولكي نكون واقعيين علينا الاعتراف بأنه لا أمل في جر مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية في غزة والمشاركين معهم في هذه الجرائم أمام القضاء الجنائي الدولي. فهذا القضاء لم يخلق لمعاقبة «المجرمين الكبار» بل فقط للضغط على صغار المشاغبين لكيلا يذهبوا بعيدا.
وفي المقابل قد تكون فكرة متابعة هؤلاء جنائيا أمام محاكمهم الوطنية من قبل شعوبهم ومنظماتهم التي مازال لديها بقية أخلاق وشيء من الضمير أكثر واقعية.
وقد يكون في الإمكان ردعهم من خلال إجراءات، لو اتخذتها دول العالم العربي والإسلامي ضد إسرائيل وحلفائها، لكانت أوجع وأردع.
- الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن صاحبها فقط
- خبير في الشؤون القانونية في الأمانة العامة لمنظمة التعاون الإسلامي