عبدالوهاب الفايز
في إطار الحديث عن حماية المستهلك المالي من جشع الممارسات التجاريه، وما يتطلب ذلك من تفعيل وإحياء لآليات وضرورات الحماية والتوعية للمستهلك، هذا الجانب سوف يظل من الأمور الأساسية لحياة الناس والتي يجب على الصحافة متابعتها وعدم التغافل عنها أو تجاهلها، بالذات في سياق الاقتصاديات المفتوحة لآليات السوق. والتجربة السعودية في سباق مع الزمن لتطوير الآليات التشريعية والتنفيذية التي تحمي المجتمع من جشع الممارسات التجارية وانفلات الأسواق، والتطور الأهم هو إنشاء (الهيئة العامة للمنافسة) حتى تقوم بواجبها الأساسي الحيوي لحماية مصالح الناس ومصالح الدولة.
هيئة المنافسة تنتقل إلى حقبة جديدة لتأكيد أهميتها ومكانتها التي يتطلع إليها ولي الأمر وتحتاج إليها بلادنا، وبدأت مشوارها وهي تحمل على كاهلها هموم وتحديات الكيانات الوليدة. الأجهزة الحكومية الاعتبارية الجديدة التي خرجت لأغراض التشريع والتنظيم والمراقبة لمجمل النشاط الاقتصادي في مجالات جديدة تواجه تحديات رئيسية، فمثلاً النشاط البيئي يجني حصيلة ارتباك في المنظومة لأكثر من ثلاثة عقود، وهناك التشريع والرقابة على الأنشطة الإشعاعية والنووية، وهناك تحديات أمن المعلومات، وتحديات المنصات الرقمية التجارية، وتحديات منظومة قطاع النقل.
ويقال هذا أيضًا عن أنشطة التجارة المحلية التي هي على تماس يومي مع أغلب شرائح المجتمع، فهذه ظلت لفترات طويلة دون آليات حماية وتوعية المستهلك، وأيضًا ما زالت تعاني من خلل هيكلي نتيجة انتشار (التستر التجاري)، وتوسع استيراد السلع من مختلف البلدان. وهذه جلبت معها مشكلة تفاوت الأسعار والمقاييس والجودة، فأصبحت أسواقنا التجارية تجني حصيلة المنتجات الجيدة والرديئة والمغشوشة، والأسوأ بروز ظواهر الاحتكار والهيمنة، وتراجع أخلاقيات التجارة.
من رحم هذه التحديات ولدت هيئة المنافسة، وبدأت برؤية وإستراتيجية محور أهدافها المستهلك، وتنص رؤيتها على هذا الهدف، فالهيئة تأسست لتكون (رائدة لدعم كفاءة الاقتصاد الوطني وتعزيز رفاهية المستهلك). وتحمي المستهلك من خلال حماية كفاءة عدالة الإنتاج للخدمات والسلع. ورغم عمرها القصير إلاّ أن الهيئة تحركت في ملفات عديدة، وفي لقاء الزميل عبدالله المديفر، في برنامج (في الصورة) مع الرئيس التنفيذي للهيئة الدكتور عبدالعزيز الزوم اتضح حجم الإنجازات التي تحققت، وبرزت لنا أيضاً التحديات. أوضح الدكتور الزوم أن الهيئة تعمل الآن على ثلاث جبهات مهمة للمستهلك وهي: أسعار العقار، أسعار السيارات، وأسعار الأدوية، وغيرها من السلع التي تشهد ارتفاعاً غير طبيعي مقارنة بالأسواق القريبة منا، أو حتى في العواصم المعروفة بالغلاء وارتفاع تكاليف المعيشة.
ومن أهم الأمور التي توسع في الحديث عنها الدكتور الزوم هو ارتفاع أسعار السيارات وقطع الغيار. ففي هذا الجانب شرح الأساليب التي تتبعها بعض الوكالات ومعارض السيارات للتلاعب بالسوق، حيث وجدت الهيئة ممارسات احتكارية هدفها رفع الأسعار وتوسيع الحصة السوقية. طبعًا موضوع السيارات مقلق ومزعج للناس، ففي ظل غياب خدمات النقل العام، تبقى السيارة الوسيلة الوحيدة المثلى التي نعتمد عليها. لذا، التلاعب بأسعارها وترحيل ارتفاع الأسعار إلى المستهلك نتيجة الرغبة في الاحتكار وتوسيع حصة المبيعات، أو نتيجة ضعف الأنظمة والرقابة.. هنا يبقى الأمر خطيرًا ومضرًا بمصالح المستهلكين، وحتى مضر للحكومة.
كذلك تحدث عن أسعار العقارات المرتفعة خصوصاً في العاصمة، فهذه أصبحت مقلقة لأنها جعلت تملك المسكن مشكلة أمام شبابنا الذي يتطلع إلى مقومات الحياة الكريمة. ذكر الدكتور الزوم أن الهيئة تتجه لدراسة سبب ارتفاع الأسعار لكي تتحرى عدالتها، ولتعرف مدى شفافية الممارسات في القطاع. وفي هذا الجانب أوضح أن الهيئة في طور انتظار البينات والأرقام التي طلبتها لكي تباشر الدراسة والتقصي. نتمنى -كما تتمنى هيئة المنافسة- أن تدعم الأجهزة الحكومية جهود الهيئة في هذا الملف المهم والحساس للاستقرار الاجتماعي.
أيضاً تحدث عن أسعار الأدوية والمستلزمات الصحية. في هذا الجانب كلّنا نلحظ فوارق كبيرة في الأسعار، وهذا الأمر لم تغفل عنه الهيئة وتدرسه الآن لكي تعرف مدى ارتباط هذا الارتفاع بممارسات هدفها الاحتكار والإخلال بمقومات المنافسة. ارتفاع أسعار الأدوية مضر بالناس، ويُحمِّل الحكومة تكاليف كبيرة ربما ينعكس أثرها السلبي على جودة الخدمات الصحية. وأيضاً يرفع تكلفة الهدر للأدوية، وهذه تقدر بأكثر من 30 مليار ريال سنويًا. وهذا، في تصوري هذا تقدير متحفظ مقارنة بحالة الهدر التي نراها نتيجة المبالغة في صرف الأدوية في منشآت القطاع الصحي الخاص والتي تتسبب بشكل غير مباشر في الارتفاع المستمر لتكلفة التأمين، وأيضًا هدر الأدوية متوقع مع كثرة الصيدليات التي تتصارع (لا تتنافس) على توسيع الحصة السوقية!
من الحوار الموسع اتضح الهدف الأساسي من قيام الهيئة وهو: حماية المستهلك، وأيضاً حماية التاجر وتنمية بيئة عادلة وشفافة لممارسة التجارة. الهيئة تسعى لاستدامة المنافسة على قواعد واضحة، فالاحتكار ممارسة خطيرة على استقرار المجتمعات السياسي والاقتصادي.
في مقال سابق بعد إعلان إستراتيجية الهيئة (الجزيرة 17 أبريل 2019)، ذكرنا أن التجربة السعودية لحماية المنافسة ومحاربة الاحتكار، والتي تأخر ظهورها كممارسة متكاملة رغم حيوية وسعة النشاط التجاري، سوف تخرج وتبرز وتأخذ مسارًا إيجابيًا في التطبيق الذي يقوم على أنظمة واضحة وقدرات بشرية متمكنة، وتوجهات تأخذ في الاعتبار المصالح العليا للبلد، وتضع مصلحة المستهلك الأساس الذي تُدار لأجله حماية المنافسة. وهنا الهدف ليس حماية المستهلك على حساب التاجر، فالهدف هو إبقاء التاجر الناجح مستمراً في إنتاجه حتى لا يقل عرض السلع أو تختفي، وعندئذ يتضرَّر المستهلك، أي كفاءة إدارة العرض للسلع والخدمات.
هذا التصور لعمل الهيئة الذي يقوم على موازنة المصالح في تطبيق أنظمة حماية المنافسة الشريفة في التجارة نراه يأخذ مساره الموضوعي الحكيم. كنا نخشى أن نذهب بعيداً ونتطرف في التطبيق الذي قد يربك النشاط الاقتصادي ويخل بحركة التجارة، ولكن الذي نراه وسمعناه من الرئيس التنفيذي للهيئة يجعلنا نطمئن على أن تحقيق المنافسة العادلة أمر يتم تطبيقه بحكمة وروية، وأيضًا دون تردد أو تساهل في العقوبة. فالحكومة تتكامل جهودها لتحقيق هذا الهدف السامي، ويحمي تطبيقه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده -حفظهما الله- لأنه جانب يمس مصالح الناس ومصادر رزقهم، ويمس مصالح الدولة العليا.