اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تقع فلسطين بين أكبر قارتين في العالم حيث تشكل حلقة وصل بين جناحي الوطن العربي الكبير في آسيا وأفريقيا، كما أنها تقع بين بحرين يؤديان إلى محيطات تحيط بشواطئ العالم من كل اتجاه مع وجود قناة السويس التي تعد شرياناً حيوياً يربط بين ثلاث قارات.
وقد ترتب على هذه المزايا المكانية والهيئات الحيوية أن أصبحت فلسطين تمثل صلة وصل بين الشرق والغرب، مما أضفى عليها أهمية جغرافية واستراتيجية جعلتها محل اهتمام القوى الكبرى عند التخطيط لمشاريعها الاستعمارية في المنطقة بعد أن ساعدت هذه القوى على هجرة اليهود إلى فلسطين والاستيطان فيها بالقوة العسكرية واعتبارها وطنا قوميا لكيان سياسي دخيل تم زرعه من قبل الصهيونية والإمبريالية لتحقيق مطامع اقتصادية وأهداف سياسية.
وقد تمكنت الصيهونية من كسب تأييد ومؤازرة قوى الاستعمار والإمبريالية واستغلالها كقوة داعمة لبلوغ غايتها المتمثلة في خلق الدولة العبرية من فراغ وتبنِّيها والدفاع عنها مقابل استخدامها كقاعدة للمصالح الإمبريالية في المنطقة على حساب الشعب الفلسطيني والأمة العربية.
والجهود الصهيونية آتت ثمارها واستطاعت هذه الحركة الصهيونية المتطرفة الحصول على ضمانات تكفل وجود الكيان الصهيوني في فلسطين، وكانت أولى هذه الضمانات صدور البيان الثلاثي من أمريكا وبريطانيا وفرنسا عام 1950 بضمان حدود الدولة العبرية، ثم توالت الضمانات من مرحلة إلى أخرى بكل ما يحتاج إليه هذا الجسم الغريب من التأييد السياسي والدعم الاقتصادي والعسكري وصولاً إلى مرحلة إثبات الوجود والتوسع وما ترتب على ذلك من السيطرة على قلب الوطن العربي والمعبر الاستراتيجي البري والبحري والجوي بين مختلف القارات.
وهذا يعني أن الصهيونية وضعت خطتها واتخذت وسيلتها لتحويل فكرتها إلى واقع ملموس، وذلك باستباحة أرض فلسطين وما جاورها من أراض عربية والعمل على تفريغها من سكانها عن طريق القوة والغزو وفرض الإرادة باستخدام القوة والاعتماد على الظهير الأمريكي.
وعلى هذا الأساس وإداركاً من الصهيونية وقوى الاستعمار والامبريالية للأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية للمنطقة العربية التي تمثل فلسطين حلقة وصل بين مشرقها ومغربها، وفي سبيل تحقيق هذه الأطراف لمقاصدها والدفاع عن مصالحها في منطقة الشرق الأوسط لجأت إلى استقدام وجلب الجاليات اليهودية والمتهوِّدين من شذاذ الآفاق والمرتزقة من مختلف أنحاء العالم وتوطينهم في فلسطين بالقوة، وجعلت منهم دولة ذات هوية يهودية ونزعة عنصرية وطبيعة عدوانية توسعية تنطلق من منطلقات دينية محرفة وأيديولوجيات مزيفة تقدس الحرب وتجعل الباطل فوق الحق.
وقد اتخذت الصهيونية وقوى الاستعمار من العمل العسكري والاستعمار الاستيطاني وفرض الأمر الواقع في الداخل والتوسع على حساب الخارج وسائل لإقامة الدولة وتأمين المجال الحيوي لها، حيث إن الاحتلال بالقوة العسكرية لا يخلق وجوداً دائماً فوق الأرض ما لم يتوج باستعمار استيطاني يجسد العمل السياسي ويفرض الأمر الواقع الذي يتحول إلى حق مكتسب، ويخلق وضعاً جديداً يمثل نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى.
وقد اهتمت أمريكا والدول الأوروبية المتحالفة معها بالدولة العبرية بسبب أهمية موقعها وتأثيره على سير الأحداث في المنطقة حيث تنظر قوى الاستعمار إلى موقع الكيان الصهيوني في فلسطين باعتباره قاعدة متقدمة لهذه القوى في الشرق الأوسط تنطلق منها لدعم صنيعتها وخدمة أطماعها الاستعمارية وأهدافها الجيوسياسية.
والدولة العبرية تدرك تمام الإدراك أن ضيق مساحتها وافتقارها إلى العمق الاستراتيجي يشكل عبئاً عليها، فضلاً عن أن طول حدودها بالمقارنة مع ضيق مساحتها يزيد من ذلك العبء، كما أن تجُّمع سكانها في الشريط الساحلي الغربي وما تعانيه من صعوبات أمنية داخلية وحدودية بسبب عزلتها السياسية وتركيبة سكانها الوطنية والمسافة الشاسعة والهوة العميقة التي تفصل بينها وبين جوارها العربي وصعوبة قبولها من قبل هذا الجوار، كل ذلك فرض عليها اتباع استراتيجية عسكرية ذات نظام خاص وأسلوب خاص على مستوى الدفاع والهجوم مع شمولية التخطيط ومرحلية التنفيذ والربط بين جميع أجزاء الدولة بشبكة مواصلات على درجة عالية من الاستيعاب والفاعلية لضمان سرعة الحركة والانتقال من مكان إلى آخر.
وهذه الاستراتيجية تحتم التمسك بالأرض وعدم التنازل عن أي جزء منها ونقل المعركة إلى الخارج مع الاعتماد على القوة والعنف والتهجير القسري والتطهير العرقي لكي تحافظ على وجودها وتتوسع خارج حدودها، وتحقق أهدافها وأهداف القوى التي ترعاها وتدافع عنها.
والواقع أن افتقار الدولة العبرية إلى العمق الاستراتيجي حال بينها وبين حرية المناورة الواسعة وأفقدها المجال الحيوي الذي تناور فيه عندما تحتاج إليه، فكان الحل الذي ارتضاه مذهبها العسكري هو نقل المعركة إلى أرض الخصم لكي تمارس أشكال المناورة المناسبة مستخدمة الهيئات الحيوية الحاكمة للسيطرة على شرايين الحركة وخطوط المواصلات، تطبيقاً لمأثورة نابليون: إن من يسيطر على خطوط المواصلات في المسرح يصبح سيد الموقف.