مشعل الحارثي
انتقل صاحب السمو الملكي الأمير ممدوح بن عبدالعزيز آل سعود إلى مرقده الأخير، بعد أن وافاه الأجل المحتوم صباح يوم الجمعة الماضي 17 جمادى الأولى 1445هـ، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة. وتذكرت كيف كان -غفر الله له- متمسكاً بالعقيدة الإسلامية والذود عنها، واهتمامه بالعلم ومحبته لطلابه، وتوقير العلماء وذوي الفضل، وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم.
أقول ذلك بعد أن قادتني الصدفة لأتعرف على سموه -رحمه الله- عن قرب، ولأول مرة، بمدينة الطائف، وقبل أكثر من (30) عاماً، وكان قد أتى قادماً من جدة، ليؤدي واجب العزاء في وفاة والد أحد الأصدقاء -الذي تربطه به صداقة قديمة-، ومنذ أن رآني وعرّفته بنفسي وباسم عائلتي حتى بادرني بالسؤال: أين التقيت بك قبل اليوم؟ فأجبت بالنفي، وأن هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها سموه وجهاً لوجه، ولكنه أصر بأنه يعرفني تماماً، وأن ملامحي ليست غريبة عليه، ومن شدة ذكاء سموه وصفاء ذاكرته كان ما بين فترة وأخرى يلح علي بالسؤال، حتى سأل سؤاله الأخير قائلاً: هل لك علاقة بالإعلام أو الصحافة؟ فأجبت سموه بالإيجاب، فقال على الفور: إذاً أنت الذي تكتب في جريدة الندوة؟ فأجبت سموه نعم، فقال أنا أتابع كل ما تكتب بالجريدة، وبعد أن عرف أنني أقيم بمدينة جدة، وجّه لي الدعوة بأن أحضر مجلسه كل يوم اثنين بعد صلاة المغرب، وزودني بأرقام قصره، وفعلاً، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحرص على حضور مجلسه العامر طوال تلك الفترة الماضية، وكنت أحياناً أنقطع لعدة أسابيع بسبب العمل أو ظروف العائلة المقيمة بالطائف، إلا أن سموه كان يفاجئني عندما يطول غيابي باتصاله وسؤاله عن أحوالي وأحوال أسرتي ووالدي الذي كنت أحرص أن أقضي إجازة نهاية الأسبوع معه وبقية أسرتي بالطائف حتى وفاته -رحمه الله-.
بل في تلك الليلة التي تشرفت فيها بمعرفة سموه الكريم، وبعد أن عرف اسم عائلتي (الحارثي)، سألني مرة أخرى عن أحد شيوخ العلم من قبيلتي، فأجبت بأنه إمام وخطيب الجمعة في أحد المساجد بالقرب من المكان الذي كنا نتواجد فيه، فطلب مني أن أصحبه لنصلي صلاة العشاء بمسجده، وكان له ما أراد، وبعد الانتهاء من الصلاة ولمحه إمام المسجد قدم للسلام عليه والترحيب به، فبادره سموه ووجّه له الدعوة بأن يتفضل عليه بتناول طعام العشاء معه لدى من حضر من أجلهم من جدة لتقديم واجب العزاء والمواساة، وأن يشاركه في هذا الأجر، وليلتها لمست فعلاً لا قولاً ما يتحلى به سموه والأسرة المالكة الكريمة كافة من توقير المشايخ العلم ورجال الدعوة إلى الله، فكان أن أجلس سموه شيخنا بجواره، وكان يقدمه على نفسه في كل شيء، بل إنه وبعد الفراغ من الطعام وكنا نجلس في بيت من بيوت الشعر الشعبية، وفي أرض واسعة على طريق منتزه الردف، ولا توجد به أماكن الغسيل المعتادة، فأصر سموه أن يحمل إبريق الماء بنفسه ليغتسل شيخنا من يده الذي أمتعنا هو الآخر وأمتع سموه تلك الليلة بالعديد من العبر والقصص والمواعظ الدينية، بل عندما أراد شيخنا المغادرة أصر سموه مرة أخرى على أن يوصله إلى داره، ومن ثم واصل طريقه عائداً إلى جدة.
هذا ملمح بسيط عن سموه -رحمه الله- ومنذ لقائي الأول به، وبعد أن أصبحت أتردد على مجلسه وداره العامرة، كنت ألمس وأتعرف مرة إثر أخرى على جوانب ومناقب جديدة من شخصيته التي تتسم بالطيبة والتواضع الجم والخلال الكريمة، وحبه الكبير لبلاده ومواطنيه والمقيمين على ثراها بدون تمييز، والمساهمة في أعمال الخير، وحبه للأيتام، وسعيه لقضاء حوائج الناس، والشفاعة الحسنة لهم لدى المسؤولين في كل ما يساعدهم لتجاوز معاناتهم، ومواساتهم في أحزانهم وآلامهم، وكنت لا أخرج من مجلسه إلا وأنا أحمل الكثير من الفوائد العلمية والدينية والثقافية، سواء في مجلسه العام الذي ينتهي بصلاة العشاء، المخصص لطلبة العلم وعامة الناس وكل ما يتعلق بالعقيدة الإسلامية، أو مجلسه الثاني الذي يبدأ بعد ذلك، وكان يختصني وبعض أعضاء هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز ومنهم الدكتور بكر العمري، والدكتور حسين باسهل -رحمهم الله جميعاً- ومجموعة أخرى من المقربين لديه لنكمل معه بقية الليلة في حوارات ومناقشات، تمتد أحياناً إلى ما يقارب منتصف الليل، ثم نتناول معه طعام العشاء.
وسموه -رحمه الله- معروف بأنه لا يحب النفاق والإطراء أو المديح الذي لا طائل منه، وأذكر ذات مرة عندما بالغ أحدهم ووصفه بما لم يرتا له من الكلمات عن زهده فأجابه سموه وبكل ثقة قائلاً: آمل يا أخي أن تعيد حساباتك ومفاهيمك فيما قلت، فأنا أقل من ذلك بكثير، فالزاهد في مفهومي هو من يقنع بالقليل والحد الأدنى من معطيات ومغريات الحياة، وينصرف تماماً للعبادة.
وقد لا يعلم البعض أن سموه -رحمه الله- تلقى تعليمه العام حتى المرحلة الثانوية بمدرسة الطائف النموذجية برفقة شقيقيه الأمير مشهور والأمير ثامر، وأبناء الملك فيصل -رحمه الله- وعدد كبير من الأمراء ممن درسوا بتلك المدرسة التي كانت تمثل علامة فارقة وسابقة لعصرها في تاريخ ومسيرة التعليم في بلادنا، ثم أكمل تعليمه بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، ومنها حصل على درجتي البكالوريوس والماجستير من قسم التاريخ، ليتنقل بعد ذلك في العديد من الوظائف الحكومية حتى طلبه الإعفاء من منصبه الأخير كرئيس لمكتب الدراسات الإستراتيجية بالديوان الملكي، ومن ثم التفرغ للعلم والدعوة ومجالسة العلماء وطلبة العلم، والانصراف للأعمال الخيرية.
والذاكرة تمتلئ بالكثير والكثير من الذكريات والمواقف مع سموه التي لا يتسع المجال لسردها، ولكني في الختام أتقدم بأصدق التعازي والمواساة إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، وسمو ولي عهده الأمين، وأسرة الفقيد، والأسرة المالكة بصفة عامة، سائلاً المولى -عز وجل- أن يغفر له ويتغمده بواسع رحمته، وأن يجزل له عظيم الأجر والثواب في كل أعماله الخيرة في دنياه.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.