د.عبدالله بن موسى الطاير
لا أحد يجادل في أن النظام الدولي الذي عانى من فشل طويل يحتضر اليوم على يد قطاع غزة. قد تكون غزة في مقابل أوكرانيا سببا كافيا للتعجيل ببديل أكثر عدالة وتوازنا، وقد يكون هذا ضربا من الأمنيات قبل أن تتصل غزة بأوروبا وتندلع الحرب الكونية الثالثة المنتظرة.
لا أميل إلى التفاؤل بنهاية قريبة لما يحدث، فالهلع هو السبيل الأقصر إلى البيت الأبيض في الاستحقاق المؤكد في نوفمبر القادم. ومن هذا المنطلق فإن المتنافسون بحاجة إلى المزيد من الدماء والقتل والرعب لضمان الوصول إلى السلطة أو الاحتفاظ بها.
كتب جون ميرشمير في مجلة الأمن العالمي أن النظام الدولي الليبرالي، الذي تأسس بعد الحرب الباردة، معيب منذ بدايته، ومحكوم عليه سلفا بالفشل. الديمقراطية الليبرالية الضرورية لبناء هذا النظام واجهت مقاومة وطنية وقومية قوية. وقفت بعض الدول المستهدفة في وجه المساعي الليبرو ديموقراطية الأمريكية لأسباب تتعلق بأمن واستقرار تلك الدول، وأسهمت في إيقاف زحف العبث الذي امتدت به اليد الأمريكية إلى العالم.
العولمة المفرطة بحسب ميرشمير تعد جزءًا لا يتجزأ من النظام الليبرالي، وخلقت مشاكل اقتصادية بين الطبقات الدنيا والمتوسطة داخل الديمقراطيات الليبرالية، مما أدى إلى ردود فعل عنيفة ضد هذا النظام، الذي زاد من أوجاعه وصول الرئيس الأمريكي ترامب إلى السلطة عام 2016م.
أدى النظام الليبرالي إلى التعجيل بصعود الصين التي نافست النظام المتمركز حول النفوذ الأمريكي مما حرم النظام الليبرالي من المحرك الرئيس لبقائه وهو الأحادية القطبية الأمريكية. استفادت الصين من العولمة الاقتصادية والتجارية، ورفضت الليبرالية والديموقراطية فمهدت الطريق لعالم ثلاثي الرؤوس أحدها رقيق يسهل التعاون معه، وآخران تهيمن على أحدهما بكين، والآخر تهيمن عليه واشنطن.
فشل النظام الليبرالي المتمركز حول أمريكا في العديد من النواحي، ولم تتحقق التنبؤات والتوقعات الاستراتيجية لما بعد الحرب الباردة. تمحورت السياسة الخارجية الأمريكية حول ثلاث فرضيات رئيسة لخصها مرات يسلتاس وآخران في أولا: فرضية تعميق الديمقراطية وتوسيعها مع انتصار للقيم الليبرالية في حقبة ما بعد الحرب الباردة. إنه توقع بانتشار القيم الليبرالية وبخلق مشهد عالمي مختلف عن السائد إبان الحرب الباردة، ويرجع ذلك إلى تفكك المركز الأيديولوجي للاتحاد السوفييتي.
في الواقع، نفذت السياسة الخارجية الأمريكية منذ 1991م خطة «التوسيع الديمقراطي»، بصياغة استراتيجية كبرى تحافظ على التفوق الأمريكي، واحتواء ومنع ظهور مراكز قوة بديلة. كان من المتوقع ترسيخ الديمقراطية في الغرب، وتحول المزيد من البلدان على مستوى العالم إليها.
أما الفرضية الثانية فتوقعت أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل والمتزايد والمتعمق على المسرح العالمي سيؤدي بالتالي إلى تحقيق الاستقرار المستدام للنظام الدولي. كانت المغزى وراء هذا الافتراض يتمثل في تعزيز الأحادية القطبية الأمريكية، وبناء نظام دولي جديد بقيادتها.
أمريكا ذهبت أبعد مما يجب فركزت الاقتصاد في يدها، وأحكمت القبضة عليه بعد 11 سبتمبر 2001م، وحولته إلى سلاح مدمر ضد منافسيها.
لم يكن صعود الصين الاقتصادي محل خشية، وإنما مبعث قلق. ومع ذلك، كان التوقع أنه، حتى لو نمت الصين اقتصاديًا، فإنها لن تحيد عن التوجه الجيوسياسي للنظام الاقتصادي الليبرالي، ولن تكون قادرة على تشكيل قوة بديلة تتحدي الهيمنة الأمريكية.
أما الفرضية الاستراتيجية الثالثة فهي أنه بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي، وصلت المنافسة بين القوى العظمى إلى نهايتها مما يؤذن بنظام عالمي جديد تابع لأمريكا.
اليوم نستطع القول إن الفرضيات الاستراتيجية سالفة الذكر قد فشلت فشلا ذريعا نتيجة سلسلة من الأخطاء التي ارتكبتها أمريكا على المستوى العالمي، فعجزت جميع الترتيبات الاستراتيجية لفترة ما بعد الحرب الباردة في تعزيز الهيمنة الليبرالية، وبذلك لم يصار إلى نظام دولي أكثر استقرارًا.
واجه النظام الليبرالي أحادي القطب مأزق ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001م، إذ مالت كفة الموازنة بين الحرية والأمن لصالح الأمن، ونفذ النموذج الأمني الجديد ممارسات بعيدة عن القيم الليبرالية، ثم أظهر مبدأ «الحرب الوقائية» تجاهلا صارخا للقانون الدولي والمعايير التي نشأت قبل الغزو الأمريكي غير الشرعي للعراق. هذا النظام الذي ترنح منذ 22 عاما دخل مرحلة حرجة في فبراير 2022م بالحرب الروسية على أوكرانيا وتعطيل الغرب لجميع المنظمات الدولية وخاصة مجلس الأمن.
أظهرت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على شعب غزة الأعزل بدعم أمريكي صارخ استماتة أمريكا للمحافظة على تفردها بالقرار خارج نطاق الشرعية الدولية، ووضع الأخيرة على ناصية الانتظار ريثما تفكر أمريكا في أحد أمرين: إما مشاركة النفوذ في ظل نظام دولي جديد متعدد الفاعلين، أو إطلاق حرب كونية ثالثة تؤمل في حسمها لصالحها للتفرد بالقرار العالمي وإعادة بناء نظام دولي وفق مقاساتها.