د. فهد بن أحمد النغيمش
جرت العادة أن نسمع دوماً أن اختلاف الناس رحمة وخلافهم شر والبعض ينسبها خطأً للنبي صلى الله عليه وسلم وبعيداً عن لمن تنسب هذه المقولة فهل فعلاً الاختلاف أو الخلاف شر؟ طبعاً قبل الخوض في ثنايا هذا الموضوع أود أن أشير إلى أنه ليس هناك فرق لغوي بين الخلاف والاختلاف لا في قواميس اللغة ولا في المصطلحات الفقهية، فكليهما ضد الاتفاق، فهما بمعنى واحد، ومادتهما واحدة.
فالاختلاف شيء طبيعي لدى البشر قد يظهر في لباسهم وهيئاتهم وطبائعهم وأمزجتهم وخاصة في آرائهم، وتتراءى بهذا حكمة الله في خلقه عبر هذا التنوع الذي يكرسه الاختلاف {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (فهو رحمة ونعمة كونية ماضية مستمرة في الحياة عامة وبين الناس خاصة مفادها أن الاختلاف حتمي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وسببه ينطوي على مقصد رباني حكيم بالغ في الحكمة والتعقيد. ألا ترى أنّ الأشياء تصبح مملة رتيبة عديمة الفائدة حين تتماثل فلذلك قال سبحانه {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.
تخيلوا لوهلة واحدة أن يوجد كون كامل فيه أناس متشابهون؛ فكر واحد وثقافة واحدة، ولغة واحدة، تجمعهم القيم والتقاليد نفسها، ويتمثلون العالم بالأسلوب نفسه، ألن يكون هذا العالم غارقاً في الملل إلى الأذنين؟ فالاختلاف حقيقة هو بداية الحوار، ولولاه لما كان هنالك حوارٌ من الأصل، ولم يكن هنالك حضارة; لأن الحضارات لا تُبنى إلا بالاختلاف الإيجابي.
ولذا في نظري إن الاختلاف والخلاف بين البشر ظاهرة صحية ومطلوبة بين البشر بل هي من أوليات درجات نضوج العقل البشري لأي إنسان حين يقر بجمال الاختلاف وجمال نتائجه واعترافه التام بذلك هو اعتراف ضمني بأن طبيعة الانسان هي الاختلاف فهو مختلف في مزاجه وشكله ولونه ومشاعره ومبادئه وآرائه وأسلوبه وكذلك قدرة تحمله، ولا أعرف ما الغاية أو المصلحة من محاربة هذا الاختلاف ووصمه بأنه سيئ وأنه سبب للكثير من المشاكل والإحن حتى وإن وجدت ورأينا أنها كانت سيئة ونتائجها غير مرضية إلا أن هناك منحاً وخفايا لا يعلمها إلا الله قد تخفى على كثير من البشر ولذا يقال: ابحث دائماً عن المنح في طيات المحن، وعن الهدايا في ثنايا البلايا بل قد يكون فيها من اللطف والخيرة ما تقصر دونه الأفهام فالاختلاف ثقافة وضرورة مهمة لكل إنسان يجب أن يدرك معناها كل حاذق وعاقل.
تأمل معي في ذاك الصديق الذي اختلف مع صديقه في قضية ما فظهرت أخلاقه وتبين معدنه من حيث الحسن أو السوء فحمد الله أن أوجد هذا الاختلاف في طريقه ليظهر له مكنون صاحبه وعمق تفكيره وطبيعة أخلاقه وكذلكم الزوج والزوجة حين يختلفان في أمر ما قد يكون سبباً لأن يعودا أفضل مما كانا وقد يكون سبباً للتعرف على قدر وغلاوة كل واحد عند الآخر وقد يكون هناك تكاشف وانجلاء لبعض الصفات والأوصاف التي لا تتضح إلا عند نقطة الاختلاف مما يجعل أحدهما يتحاشى في بعض المواضيع حفاظاً على شعور بعضهم البعض، ولو لم يكن للاختلاف بين الناس والافتراق إيجابيات لما وجد التنافس بين رجال الأعمال وأصحاب التجارة من حيث السباق إلى الاختراع والابتكار، نيوتن كان السبب لبداية اكتشافه لقانون الجاذبية وسر نبوغه اختلاف معلمه حول ذكائه ووصمه بالغباء.
نعم يمكننا أن نطلق على الاختلاف الذي طالما نظرنا له نظرة سلبية وأهملنا جوانبه الإيجابية بأنه نعمة وليست نقمة في جميع أحواله، فبدون الاختلاف كيف نروض أذهاننا، وكيف تتلاقح أفكارنا، فالخلاف بالرأي هو الطريقة الوحيدة التي تحمينا من أن نصبح سجناء لوجهة نظر واحدة، وهو من يفتح مجالات واسعة للتفكير بهدف الوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول إليها.
في نهاية المطاف دعوني أدعوكم للخلاف الجميل والنقاش الحميم بعيداً عن تعصب أو شحناء أو لغط في الكلام ففي اعتقادي أننا بحاجة للاختلاف أحياناً لمعرفة ما يخفيه لنا الآخرون في قلوبهم، قد تجد ما يجعلك في ذهول، وقد تجد ما يجعلك تنحني له احتراماً.