حسن اليمني
من الأشياء المثيرة التي ولّدها فجر السابع من أكتوبر انكشاف ضعف الكيان المحتل وهشاشته وحتمية زواله، هذه الملاحظة تظهر للناظر في عمق الأحداث وربما غابت عن أعين الممتلئين بالواقعية الآنية، وفي هذا البعد مهم أن نقف على التزاحم الفكري في التوجهات للرأي العربي والإسلامي بين المنادين للواقعية السياسية وبين الثابتين على الحقيقة المنطقية أو الثوابت التاريخية المتوارثة.
الواقعيون الذين كانوا وما زالوا يواجهون عميق الوعي في عقولنا كعرب ومسلمين بظاهر ضعفنا وتفرقنا أو تشتت مساراتنا بوصف التخلف والانغلاق أو الانحباس في التاريخ في مقابل الكيان المحتل المدعوم بقوة العالم الأقوى بما يجعل مصارعته عبثا وخروجا عن الواقع، إلى درجة أنهم ما زالوا يرون فيما يحدث في فلسطين هذه الأيام غباء يناطح الذكاء وضعفا يصارع القوة بما يجعل الصورة مثيرة للسخرية ولم يكتفوا بذلك، بل صاروا يلاحقون كل فخر وافتخار بعمل عربي أو إسلامي رائع يخالف منطق الواقعية المهزوم واعتباره تخلفا أو تأخرا في الوعي أو غباء سياسيا، مستندين في ذلك إلى أن الرهان على المفاهيم والقيم القومية والدينية متأخرة عن فهم العصر ومعطياته وربما زادوا فقالوا إنه المولد للتطرف الذي يوصف اليوم بالإرهاب، والقاعدة وداعش مثال يستشهدون به، المثير حقا أن هؤلاء وهم يتشدقون بالواقعية الآنية هم أبعد ما يكونون عن الواقعية المنطقية التي تثبت أن فكرهم في الحقيقة من يستحق وصف التخلف في الوعي والامتياز بالغباء السياسي، ذلك أن حقيقة الأمر أنهم فاقدو عمق الرؤية بالفهم السطحي أحيانا غباء واستلابا وأحيانا أخرى وظيفة ظهور وحضور للإيجار والاستثمار.
لقد تعرضنا في العالمين العربي والإسلامي لعدة عمليات تهجين وتحويل من الحقوق المنطقية للواقعية الظاهرية بشكل متتال وقد حققت نتائج باهرة ومشهودة لكنها في ذات الوقت أيقظت وأعادت كما عربيا وإسلاميا للعمق وأعادت فهرسته، وإن أخذنا غزو أمريكا للعراق وأفغانستان ثم ثورات الربيع العربي وتبعها الثورات المضادة وتبعها تدخل إقليمي في عملية تصعيد الأقلية على الأكثرية إلى أن وصلنا الحرب الجارية الآن في فلسطين، كل هذه الأحداث كانت نقاط فصل بين عمق التاريخ وحاضره أو سطحه الظاهر، صرنا اليوم مع أو ضد، مع من؟ وضد من؟ بالتأكيد مع الواقعية أو ضدها، وبطبيعة الحال حين تكون ضد الواقعية تصبح مع العمق والتاريخ الذي أصبح يوصف بالتخلف عن العصر وفي التفكير، وبالمناسبة شيء يحسن ذكره فإن هذا الفصل ليس جديدا ولم يكن ابتداعا غربيا صهيونيا، بل سبقه الشرق الشيوعي الصهيوني لكنه دفن عام 1994م بسقوط الاتحاد السوفييتي، غير أن الانتصار الغربي الصهيوني في هذه العملية التي نعيشها راهنا اليوم وصلت قمة الذروة من النجاح بحيث صارت هي السائدة والظاهرة الحاضرة وأصبح كل من هو ضدها متفاخرا بأي عمل عربي أو إسلامي بإرادة حرة مناهضة للغرب الصهيوني خروجا عن الواقعية وغباء سياسيا وثقافيا لا يعي الواقع.
والأمر كذلك فإن ثبات المقاومة الفلسطينية حتى اليوم في مواجهة ليس جيش الكيان بل جيوش الغرب الصهيوني صار أمرا مزعجا ومقلقا للواقعية المزعومة، وقد علق أكثر من مسئول غربي بأنه يجب ألا ينهزم الكيان المحتل باعتباره هزيمة لواقعية الغرب الصهيوني، وفي الأغلب وحسب معطيات الواقع وحقائقه يبدو أن النجاح حليفهم لولا هذا الصمود والقوة في المقاومة التي فاجأت العالم فجر يوم السابع من أكتوبر بكسر تمثال الصنم الذي لا يقهر والنتائج التي حققتها المقاومة من البدء إلى اليوم بما أوقع الغرب الصهيوني في حرج جعله يخرج عن طوره ويعلنها صريحة أن طائراته تحلق في سماء فلسطين للتجسس لصالح الكيان وأن الموانئ البحرية والجوية تعج بزحام توريد السلاح لا بل دعم جيش الاحتلال بالمرتزقة وحتى الجند من فرنسا وبريطانيا وأمريكا وأوكرانيا وبذات الوقت وببجاحة متناهية التحذير من أي يد تمتد لدعم المقاومة ولو حتى بالغذاء والدواء إلا بإذن وبعد تفتيش أعين الكيان المحتل.
إزاء هذا نكون وصلنا ذروة التبجح والانكشاف الذي لم يعد يهتم برد فعل دام الأمر وصل إلى قاعدة نكون أو لا نكون، عودة عساكر الكيان المحتل برفقة عساكر الغرب الداعمة إلى خارج قطاع غزة دون الفوز بإعادة الأسرى أو حتى بهم بموجب اتفاق مع المقاومة هو وبكل منطق سياسي أو عسكري هزيمة للكيان وإعلان متقدم لتدمير فلسفة الواقعية للغرب الصهيوني ليلحق برفيق دربه الاتحاد السوفييتي، بما يعني ظهور عالم آخر متعدد الأقطاب أولى مهامه إعادة تصحيح جغرافية المنطقة، لترتيب استقرارها اللازم والضروري لإحياء اقتصاد وازدهار العالم الجديد على أنقاض شرق أوسط شيمون بيريز أو شرق ترامب الإبراهيمي أو سمه ما شئت، فقد تعددت الأسماء وتلونت عدة مرات لكن عودة فلسطين للحياة في صباح يوم السبت السابع من أكتوبر كان بمثابة صاعق قادم من العمق التاريخي أحرق برمجية واقعية الغرب الصهيوني الخادعة وأثبتت فشل رؤية صامويل هنتنجتون وبرناند لويس وشيمون بيريز وترامب وبايدن أخيرا.
إن ظهور حقيقة التاريخ تثبت أن أي حاضر لا بد أن يكون مبنياً على ماض وأن لا مستقبل لحاضر يبنى على تواريخ واقع على حساب تاريخ سبقه، وإذا رأي البعض أن اليابان مثلا بنيت على واقع صنعته الهزيمة والاستسلام فذاك حين جعلت الإمبراطور هو عمقها التاريخي وهو يختلف كليا عن عمق التاريخ العربي والإسلامي ولا يصل حتى لدرجة المقارنة وإنما تقارن بدول في شرق آسيا وأمريكا الجنوبية، نحن في قاع الوعاء الذي نتنفس منه هواء المستقبل، ومنذ احتلال فلسطين والمقاومة مشتعلة وحاضرة رغم مرور العقود من الزمن وتجبر القوى المعادية وسطوتها وحتى هيمنتها وإدارتها لأحداث المنطقة بقت مستمرة حاضرة تكشف مرة تلو مرة ازدواجية المعايير ولعبة حقوق الإنسان والشرعية الدولية وإلى آخره.