د. محمد عبدالله الخازم
كتبت هنا (بتاريخ 13-11-2023م) عن اختيار رؤساء الجامعات، وركزت على فكرة أنه لكي تكون الجامعة مؤسسة منتجة ومنافسة في مجالها، عليها اختيار القادة ذوي القدرات في التطوير الاقتصادي والتشغيلي والتعامل معهم وفق آليات تحفيزية ومحاسبية واضحة. لست بصدد الإعادة هنا وإنما إثراء النقاش عبر شرح الأبعاد الفكرية المتعلقة باختيار قادة الجامعات.
تاريخياً، تمثلت الفلسفة الفكرية التي تحكم الجامعات العربية في النظر إليها كمؤسسة سياسية، يمنح مديرها لقب معالي ويعين بأمر من أعلى قيادة في البلد، بما يحمله وصف السياسي من توجسات ومحاذير. في المؤسسة السياسية تكون الاعتبارات الأهم متعلقة بالالتزام بالمبادئ السياسية والتحكم في السلوكيات الفكرية وغير ذلك من المعايير، وليس الإنتاجية الاقتصادية.
وبالتالي يبنى الاختيار على مبدأ الثقة وتوفر السمات المطلوب وجودها في القائد السياسي أو شبه السياسي. هذا الأمر ليس مستغربا، فالجامعات في بعض الدول كانت مصدر قلق وبالذات مع تغلغل النقابات والأحزاب فيها وكونها تحوي النخب الفكرية من ناحية والشابة الثورية من ناحية أخرى وكلاهما يقلق السياسي.
هذا الأمر لم يبرز في جامعاتنا السعودية بفعل تركيبتها الإدارية والسياسية، بالذات مع تأسيس وزارة التعليم العالي التي أخذت على عاتقها توحيد أنظمة ولوائح الجامعات ومنح الوزارة دوراً محورياً في إدارتها. بعض تفاصيل علاقة الجامعات بالعوامل الأيدلوجية/ السياسية بالجامعة السعودية تضمنها كتابي «اختراق البرج العاجي» الصادر عن دار طوى عام 2011م. ذلك الكتاب استعرض مرحلة تاريخية سابقة لصدوره، لكن المؤكد أن المملكة تمر بتغييرات وتحديثات فكرية وإدارية مختلفة، ربما تستحق بحثا أعمق في تفاصيلها وأثرها. حالياً، المملكة لديها رؤية إدارية مختلفة وتوجهات واضحة للوصول إلى جامعات ذات تنافسية عالمية تعتمد الإنتاجية وبناء الموارد الذاتية في عملها..إلخ. يمكن الاستدلال على ذلك من خلال نظام الجامعات الأخير ومنح بعض الجامعات استقلاليتها مثل جامعة الملك سعود أو ربطها بكيانات اقتصادية تضمن مواردها مثل ربط جامعة البترول والمعادن بشركة أرامكو...إلخ.
العنصر الثاني يتمثل في سيطرة العقلية الأكاديمية. حين تقبض الجامعة العربية ميزانيتها ورواتبها من الدولة تكون مهمتها القيام بالأعباء الأكاديمية وبالتالي جل التطوير وقياس المنتج يكون في التفاصيل الأكاديمية والإجرائية والكمية، مثل إجراءات الجودة والترقيات وزيادة أعداد الكليات والتخصصات والموظفين والاساتذة ومشاريع الكليات، إلخ. وفي ظل الصلاحيات المحدودة والقلق الفكري استكان الأكاديمي العربي إلى هذا النوع من التطوير وأصبح يقاوم ما سواه، الذي قد يخرجه من منطقة الراحة ويؤثر في مصالحه الشخصية. على سبيل المثال، لا يتعرض الأكاديمي العربي لضغوطات كبرى مقارنة بالغربي في موضوع الإنتاجية وعقود التوظيف، كما يحظى الأكاديمي المحلي بامتيازات العمل خارج جامعته بشكل موسع والحصول على امتيازات كبرى كالابتعاث وحضور المؤتمرات والبدلات، إلخ.
يبدو أنه حان الأوان لتتجاوز الجامعات العربية قلقها الفكري والسياسي التقليدي وتبني الفكر الاقتصادي بأبعاده الإنتاجية والمحاسبية. هنا سيبرز سؤال يقلق البعض؛ ألن يقود هذا التوجه إلى ضعف سيطرة أو تأثير الحكومات على القرار الجامعي؟
الإجابة باختصار، لا، بل ربما يمنحها أذرعا إضافية. نلحظ ذلك في تجربة الجامعات الغربية، حيث يبقى للحكومات المحلية والفدرالية تأثيرها على أعمالها وقراراتها عبر تشريعاتها وأذرعها الاقتصادية الداعمة لها والمتمثلة في المنح الدراسية والبحثية الحكومية والمشاريع المشتركة ومنح الأراضي والمقرات، وغير ذلك من الوسائل. تلك الجامعات تتماهى مع سياسات حكومات بلدانها، إن لم يكن بدوافع وطنية مجردة فتحت ضغوط التشريعات والمصالح الاقتصادية والمادية ..إلخ. لا يوجد استقلالية تامة، وإن تم ادعاء ذلك من قبل بعض الجامعات الغربية.