د. تنيضب الفايدي
حاتم الطائي اسمٌ معروف يتكرر ذكره في كلّ المجالات، خاصةً في الجود والكرم والسخاوة والشهامة حتى جرى ذكره مجرى الأمثال، فقيل: «أجود من حاتم»، لا يوجد تاريخ محدد لميلاده وإنما يقرب أو يقدر ميلاده، فلربّما أن ميلاده كان قبل منتصف القرن السادس؛ لأن وفاته حددت عام 605م، وقد يكون عاصر البعثة عندما كانت في بداياتها في مكة المكرمة؛ لأن ابنته سفانة قدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكرت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات والده الحميدة: «يا جارية: هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلّوا عنها فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق والله يحبّ مكارم الأخلاق. وكذا ابنه عدي وَفَد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع في شعبان، وقيل: سنة عشر، فأسلم وكان نصرانياً، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه إذا دخل عليه.
أما اسمه فتتفق الروايات التاريخية أن حاتم الطائي هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، وأمه عِنَبةُ وقيل: (عِتَبَة) بنت عفيف من طيء، تربّى في حِجر جدّه سعد بن الحشرج، حيث مات أبوه وهو صغير، ويُكنّى أبا سفَّانة وأبا عدي، من قبيلة طيء الشهيرة، وسكن قبيلة طيء هي بلاد الجبلين (أجا وسلمى) التي تسمى الآن منطقة حائل شمال المملكة العربية السعودية، واشتهرت قبيلة طيء بأنها من القبائل التي دخلها الإسلام دون حرب، وحافظت على إسلامها ولم ترتد، بل حاربت المرتدين، وكان عدي بن حاتم أول من أتى المدينة بالصدقات، وعندما أرسل أبو بكر الصديق خالد بن الوليد لمقاتلة طليحة بن خويلد الأسدي أحد قادة المرتدين في منطقة حائل، ما أن وصل إلى قرب جبل أجا حتى هب عدي بن حاتم الطائي لمناصرته في موقعة بُزاخة، وواصلت قبيلة طيء تحت قيادة عدي بن حاتم الطائي مساهماتها الفعالة في الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين فاشتركت في معارك القادسية واليرموك.
كما برز من القبيلة عدد كبير من الشعراء الذين حافظوا على اللغة العربية وانتشرت أشعارهم، واشتهر منهم في الإسلام الطائيان: أبو تمام والبحتري، وفي الجاهلية حاتم الطائي وشعراء آخرون. كما اشتهر بأنها من القبائل التي استقلت بإمارة تسمى (إمارة الطائيين) في الشام فيما يسمى الهلال الخصيب (الشام).
زواجه
كانت له زوجتان (النوار) و(ماوية)، وقد كرّر حاتم الطائي ذكرهما في الأبيات، حيث يخاطب زوجته الأولى (نوار) فيقول:
مَهْلاً نَوَارُ أَقِلِّي اللَّوْمَ والعَذلا
ولا تَقُولي لشَيءٍ فاتَ ما فَعَلا
ولا تقولي لمالٍ كنتُ مُهْلِكَه
مَهْلاً وإن كنتُ أُعْطِي الأنسَ والخَبلا
يَرَى البَخيلُ سبيلَ المالِ واحِدةً
إن الجوادَ يرى في مالِه سُبُلا
كما ورد شعر يخاطب زوجته الثانية (ماوية) وقد تزوجها من الشام:
أماويَّ قد طالَ التجنُّبُ والهجْرُ
وقد عَذَرتني في طِلابِكُمُ العُذْرُ
أماويَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائحٌ
ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكْرُ
أماويَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ
إذا جاءَ يوماً حلَّ في مالنا نَذْرُ
أماويَّ إمَّا مانعٌ فمُبَيِّنٌ
وإمَّا عَطاءٌ لا يُنَهْنِهُهُ الزَّجْرُ
ديانته
مات حاتم الطائي قبل البعثة، لذا وجب قياس ديانته أو عقيدته وفق منظور الحياة الدينية في عهده، فهو من حيث الديانة: مسيحي (نصراني)، لم يثبت ولاسيما في المصادر الضئيلة أنه من الوثنيين. بل يؤمن بأن الله تعالى يحيي العظام وهي رميم حيث قال:
أما والذي لا يعلمُ الغيْبَ غيرُهُ
ويُحْيِي العظامَ البيضَ وهي رميمُ
كما يؤمن بأن الله هو الرزاق حيث يقول:
كلوا الآن من رزق الإله، وأيسروا
فإنّ، على الرّحمانِ، رِزْقَكُمُ غَدا
حاتم الطائي والكرم
الكرم صفة اشتهر بها حاتم الطائي، ويرى الباحث أن حاتم الطائي رضع من أمه صفة الكرم ونشأ جسمه وفكره من رضاعته لأمه، حيث روي أن أم حاتم الطائي عتبة بنت عفيف كانت ذات غنى وكانت من أسخى الناس وأقراهم للضيف، وكان لا يبقى من مالها شيئاً.
وفاة حاتم الطائي ووصاياه
توفي حاتم الطائي سنة 605م وقيل 578م والقول الأول أصح، ودفن في بلدة توارن في منطقة حائل، وأطلال قصره وقبره باقية إلى الآن، وشاهدة على أسطورة الكرم العربي الأصيل، وروي عن عَدي بن حاتم أن حاتماً أوصى عند موته فقال: إني أعهدُكم من نفسي بثلاث: ما خاتلْتُ جارةً لي قط أريدها عن نفسها، ولا أؤتمِنْتُ على أمانةٍ إلا قضيتُها، ولا أُتِيَ أحدٌ من قِبَلِي بسَوْءَةٍ أو قال بِسُوءٍ. وقد ورد عن عدي بن حاتم يقول: «كان حاتمٌ رجلاً طويل الصمت، وكان يقولُ: إذا كان الشيءُ يكْفيكه التَّرْك فاتْرُكْه.
مكارم الأخلاق وحاتم الطائي
الأخلاق جمع خُلُق، والخُلُق هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، أي الصفات الثابتة في الإنسان، بحيث تصبح طبعاً وعادة يصعب مخالفتها أو حتى تغيرها، ومنها ما هو حسنٌ، ومنها ما هو قبيحٌ، وعلى ذلك فإنَّ الأخلاق تنقسم إلى قسمين: أخلاقٌ حسنةٌ كريمةٌ، وأخلاقٌ سيئةٌ مذمومةٌ، أما مكارم الأخلاق فهو الأخلاق الحميدة، وتعدّ مكارم الأخلاق من أهم الأسس التي اعتمدها الإسلام في بناء الفرد وإصلاح المجتمع. إذ أن سلامة المجتمع، وقوة بنيانه، وسمو مكانته، وعزة أبنائه مرهونة بتمسكه بمكارم الأخلاق، كما أن انهياره، وشيوع الانحلال والرذيلة والفساد فيه مقرون بنبذه الأخلاق الحميدة، والابتعاد عنها، والخُلُق اسمٌ لسجيّة الإنسان وطبيعته التي خُلِق عليها وأعظم ما وُصِف بالخلق الكامل العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم. وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه أحمد والحاكم.
وكان للعرب أعراف وأخلاق وقيم كانوا ملتصقين بها قبل الإسلام مثل: الكرم، الشجاعة، صلة الرحم، حسن الجوار، حسن المعاشرة، الحلم، الصدق، الأمانة، الوفاء ومساعدة الفقراء، ثم جاء الإسلام وأبقى تلك الصفات والأعراف وأقرّها، بل زاد من أهميتها، وأوجد لكلّ منها قيمة معنوية كبيرة في نفس المسلم، كما جعل لها جزاءً هاماً في الدين الإسلامي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبّ مكارم الأخلاق، بل جعل غاية الرسالة هي إتمامها، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب رواية بعض الأشعار الجاهلية التي تدلّ على مكارم الأخلاق حيث أعجب ببيت قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا
كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
أما حاتم الطائي فتتوفر فيه بعض هذه الصفات من مكارم الأخلاق، منها: الكرم، وصلة الرحم، وحماية الجار وإنقاذ المستجير، وحماية الضعينة (المرأة)، والصدق، والأمانة، والوفاء، وحسن المعاشرة، ومساعدة الفقراء، وحسن الجوار، والحلم، والشجاعة، وغيرها، وقد ذكرت بعضاً منها ابنته سفانة بنت حاتم رضي الله عنها حينما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن أبي يَفُكُّ العاني ويحمي الذّمار، ويقري الضيف، ويُشبع الجائع، ويُفرج عن المكروب، ويُطعم الطعام، ويُفشي السلام، ولم يَرُدَّ طالب حاجة قط» وهذه الصفات تعتبر صفات عملية لمكارم الأخلاق، ولعلها تلخص أهم صفات حاتم الطائي وقد سبقت وفاته الإسلامَ.
بعض مكارم الأخلاق في سيرة حاتم الطائي وأدبه
صلة الرحم
من أسرار قوة العرب في جاهليتهم صلة الرحم فكانوا يعتزون بالقرابة ويحثون على إدامة الترابط والتواصل ليضمنوا بقاءهم وتفوقهم؛ لأن صلة الرحم من البرّ الذي يزيد العدد أي: يزيد العدد في أفراد القبيلة، وكان اعتزاز الفرد بقبيلته وبصلة النسب مثل اعتزاز المواطن بوطنه فـ»صلة النسب عند العرب تشبه العلاقة الوطنية في زماننا، وحتى في الإسلام يتمسك برحمه وأقاربه حتى ولو أساءوا له فهم خيرٌ له من الأباعد، وحاتم ممن يعتزّ بصلة الرحم حيث قال في قصيدة طويلة ذاكراً فلسفة المال وصلة الرحم:
قَلِيلٌ به ما يحْمدنَّك وارِثٌ
إذا ساقَ ممَّا كنتَ تَجْمَعُ مَغْنَما
تَحَلَّم عن الأدْنَيْنَ واسْتَبْقِ وُدَّهُمْ
ولن تستطيعَ الحِلْمَ حتَّى تَحَلَّما
متى تَرْقَ أَضْغَانَ العَشِيرَةِ بالأنَا
وكَفَّ الأذَى يُحْسَمْ لك الدَّاءَ مَحْسَما
وما ابْتَعَثَتْنِي في هَوايَ لجَاجَةً
إذا لم أجِدْ فِيما أمامِي مُقَدَّما
إذا شِئْتَ نَاوَيْتَ امْرأَ السُّوءِ ما نَزَا
إليكَ، ولا طَمْتَ اللَّئيمَ المُلَطَّما
وذو اللُّبِّ والتَّقْوضى حَقِيقٌ إذا رَأَى
ذَوِي طَبَعِ الأخْلاقِ أنْ يَتَكَرَّمَا
فَجَاوِرْ كريماً، واقْتَدِحْ مِن زِنادِهِ
وأَسْنِدْ إليه، إنْ تَطاولَ، سُلَّما
وَعَوراءَ قد أَعْرَضْتُ عَنْهَا فَلَمْ تَضِرْ
وذِي أَوَدٍ قَوَّمْتُهُ فَتَقَوَّما
وأغْفِرُ عَوْراءَ الكَريم اصْطِناعَهُ
واصْفَحُ عن شَتْمِ اللَّئِيمِ تكرُّما
ولا أخذُلُ المَوْلَى وإنْ كان خاذِلاً
ولا أشْتُمُ ابنَ العمِّ إنْ كانَ مُفْحَما
ولازَادَنِي عنه غِنَايَ تَبَاعُداً
وإنْ كان ذا نَقْصٍ مِن المالِ مُصْرِما
حماية الجار وإنقاذ المستجير
كان إكرام الجار والحماية له وعدم إيذائه ولأسرته من شيم العرب، فالعربي يحافظ على جاره، غريباً كان أو قريباً، كما يحافظ على حريمه وشرفه ويتحمل إساءته ويغضي عن هفواته ويحبّ له الخير، وأحياناً عند وقت اللجوء يجيره ويحميه كما يحمي أهله وعياله، والعرب كانوا يشاركون في أفراح الجار وأحزانه ومغارمه، ويعتبرون الإهانة له لأنفسهم، عرف عن حاتم الطائي إضافة إلى الكرم تقديره للجار والصاحب، ولا يفكر يوماً الإساءة إليهما، ولا يفكر أبداً في وصل (عرس الخليل أي: امرأة الصاحب) كما لا يفكر في الجارة إطلاقاً. قال حاتم الطائي:
كريم لا أبيت الليل جاد
أعدد بالأنامل ما رزيت
إذا ما بت أشرف فوق ريّ
لسكر في الشراب فلا رويت
إذا ما بتّ أختل عرس جاري
ليخفيني الظلام فلا خفيت
أأفضح جارتي وأخون جاري
معاذ الله أفعل ما حييت
وإكرامُ الجار أولى من إكرام الضيف عند حاتم الطائي، حيث يقول:
وما ضَرَّ جاري يا ابنةَ القومِ، فاعلمي
يُجاورُنِي ألا يكونُ لهُ ستْرُ
بِعَيْنَيَّ عن جاراتِ قومي غفْلةً
وفي السَّمْعِ مِنِّي عن حديثهُمُ وقْرُ
وهذا خلق كريم أقرها الإسلام، بل حث على ذلك، قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (6) سورة التوبة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره...) متفق عليه. وعن أبي شريح رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» قيلَ: ومنْ يا رسول الله؟ قال: « الذي لا يأمن جارته بوائقهُ» رواه البخاري.
الكرم
كان الكرم في طبيعة الناس في الجاهلية فكانت أنفسهم تميل إلى العطاء بسخاء، فالكرم راية خفاقة تنافس العرب في جاهليتهم للانضمام تحت لوائها، فكان الكرم سجية عندهم وطبع تأصل في النفوس وهو الترنيمة العذبة التي تغنى بها الشعراء العرب في جاهليتهم ونسجوا وشاحاً عزيزاً يحلقون به أصحاب الجود والعطاء.
و من كرم العرب أنهم يشعلون النيران ليهتدي به المسافر إلى وجودهم فيأتون إليهم، وكان لحاتم الطائي موقد النار وكان له غلام، يأمره بإيقاد النار حتى يراها الضيف، فيأتي إليها، وقد وقف الباحث على هذا الموقد فوق جبل وسط حائل حيث كان يقول لعبده:
الليلُ يا غُلامُ ليلٌ قِرُّ
والريحُ يا موقِدُ فيها صِرُّ
فأَجِّج النارَ لمنْ يَمُرُّ
إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً فأنتَ حرُّ
أي: أن مجيء الضيف سيكون عتقاً لهذا العبد الذي كان سبباً في مجيئه بإيقاده النار، والنار التي يريد حاتم الطائي إيقادها من غلامه هي نارُ القِرى، وكانت النيرانُ عند العرب على أنواع، منها: نار الوَسْم، نار الاستسقاء، نار التحالف، نار القيد والمعاهدات، نار الحرب، نار الغدر، نار السلامة، نار الراحل، ونار الأسد على آخره... ولكن أول النيران نارُ القِرى، وهذه العادة كانت من أفضل وأمجد عادات العرب. كما أنه يكره البخل ويحبّ الكرم، حيث يقول:
يرى البخيل سبيل المال واحدة
إن الجواد يرى، في ماله، سبلا
إن البخيلَ، إذا ما مات، يتبعه
سُوءُ الثّناءِ، ويحوي الوارِثُ الإبِلا
لَيتَ البخيلَ يراهُ النّاسُ كُلُّهُمُ
كما يراهم، فلا يقرى، إذا نزلا
ولا يقتصر على الإكرام بل يتبسط معه ويضاحكه، وهذه من صفات تمام الكرم، قال حاتم الطائي:
أضاحِكُ ضيفي قبلَ إنـزال رحْله
ويخْصِبُ عندي والمحلُّ جديبُ
وما الخَصْبُ للأضياف أن يكثر القِرى
ولكنّما وجْهُ الكريم خصيبُ
وذكر قصص وحوادث حاتم الطائي في الكرم يطول.
حسن المعاشرة
يبين حاتم الطائي حسن الأدب في المعاشرة، فهو لا يتسرع في الورود براحلته ليشرب قبل ورود ركائب القوم، وإذا سافر مع أحد، أعانه في سفره وأرفعه إن لم يجد صديقه راحلة، فإن لم تستطع الناقة حملهما معاً، وتناوبا في الركوب، يقول حاتم الطائي:
وما أنا بالساعي بفضل زمامها
لتشرب ماء الحوض قبل الركائب
وما أن بالطاوي حقيبة رحلها
لأبعثها خفا وأترك صاحبي
إذا كنت ربا للقلوص فلاتدع
رفيقك يمشي خلفها غير راكب
أنخ فأردفه فإن حملتكما
فذاك وإن كان العقاب فعاقب
وقد أقرّها الإسلام فطبقها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سفره لفتح بيت المقدس، فكان يتناوب مع خادمه ركوب الناقة. كما حثّ الدين الإسلامي الحنيف على السماحة ولين الجانب في جميع المعاملات، المادية أو في الحياة اليومية، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران.
مساعدة الفقراء
أن العطف على المحتاجين ومواساة المعوزين ومساعدة اليتامى والأرامل والمساكين والرأفة بهم كانت طبيعة العرب الجاهلي، وكان حاتم الطائي ينفق ماله للفقراء والمساكين، فما من سائل يسأله إلا ويعطيه، وكانت لحاتم قدور عظام بفنائه لا تنـزل عن الأثافيّ. وإذا أهلّ رجب نحر كل يوم وأطعم. وكان أبوه جعله في إبل له وهو غلام فمرّ به عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وهم يريدون النعمان فنحر لهم ثلاثة من إبله وهو لا يعرفهم، ثم سألهم عن أسمائهم فتسموا له ففرق فيهم الإبل كلها. وبلغ أباه ما فعل فأتاه فقال له ما فعلت الإبل فقال يا أبه طوَّقتك مجد الدهر طوق الحمامة، وأخبره بما صنع. فقال له أبوه: لا أساكنك أبداً ولا آويك. قال حاتم إذاً لا أبالي فاعتزله.
ويذكر هذه الحقيقة حاتم الطائي عندما يلومه الآخرون عند كرمه المعهود ومساعدته الفقراء ويذكرونه بالورثة فيقول لهم:
إذا أنتَ أُعْطِيتَ الغِنَى ثم لم تَجُدْ
بفَضْلِ الغِنَى أُلْفِيَتْ مالكَ حامِدُ
وماذا يُعَدِّي المالُ عنك وجمْعُهُ
إذا كان مِيراثاً وواراكَ لاحِدُ
وقد جاء الإسلام وحث على الإنفاق في سبيل الله لمساعدة الفقراء والمساكين والأيتام، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (254) سورة البقرة، كما حذّر من أكل أموال اليتيم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (10) سورة النساء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرّج بينهما شيئاً) متفق عليه.
الشجاعة
الشجاعة والصبر والكرم والجود صفات مترابطة بعضها مع بعض فتلتقي هذه الصفات في بعض الأحيان ولكنها تنفصل في أحيان أخرى، يقول الكفوي: الكرمُ إن كان بمال فهو جودٌ وإن كان بكفّ ضرر مع القدرة فهو عفوٌ، وإن كان ببذل النفس فهو شجاعة. والشجاعة من صفات العرب والشجاعة التي كانت تخيّلها العرب في الجاهلية لم يقتصر على القوة الجسمية فقط بل يشمل أيضاً القوة في العقل، والقوة في الخلق، والقوة في الشرف والكرامة. والذي عنده شجاعة يكون عزيز النفس لا يخضع للذل، الموت عنده أهون من حياة الخسف والهوان، لا يسكن في دار الخنوع، ولا يهدأ على ثأر، صادق القول، وفيٌّ في الوعد، عفيف النفس، رفيع العماد، شريف النسب، يكرم عشيرته ويكرم ضيفه، فطبيعة الحياة العربية جعلت الشجاعة سجية عندهم، فهم لا يعرفون الاستكانة أو التخاذل في الدفاع عن قبيلته والحفاظ على سمعتها وكرامتها، فهم صبر عند اللقاء، لا يرهبون الموت، فالثبات في القتال كان من دواعي الفخر، كما أن الفرار من أسباب الهجاء. قال حاتم الطائي في الشجاعة:
وخِرْقٍ كنَصْل السَّيْفِ قد رامَ مَصْدَقِي
تَعَسّفْتُه بالرُّمْحِ، والقَوْمُ شُهَّدِي
فَخَرَّ على حُرِّ الجَبِينِ بضَرْبَةٍ
تَقُطُّ صِفاقاً عن حشاً غَيْرِ مُسْنَدِ
فما رِمْتُهُ حتَّى تَرَكْتُ عَوِيصَهُ
بَقِيَّةَ عِرْقٍ بَحْفِزُ التُّرْبَ مِذْوَدِي
وحتى تَرَكْتُ العائِداتِ يَعُدْنَهُ
يُنادِينَ لاتَبْعَدْ وقلتُ له: ابْعَدِ
الوفاء
الوفاء من أجلّ الصفات الخلقية وأسماها، فهو شعارٌ خلقي يضمّ تحت لوائه صفات أخرى متعددة، وتكون الوفاء من نواحي عديدة، فالوفاء مراعاة العهد وتجنب خلف الوعد، وقد يكون الوفاء بالدين، وكذلك القول، والوفاء بأداء الأمانة إلى صاحبها، والوفاء في الحب وغير ذلك كثير، وهذه الصفة كانت موجودة في العرب الجاهلي، فالعربي في جاهليته كان شديد الحرص على الوفاء ويبذل في سبيل وفائه أعزّ ما يملك مثل السموأل بن عاديا الذي آثر ذبح ابنه على نقض الوفاء. وحاتم الطائي كان وفياً في كلّ تعاملاته، قد ذم الغدر حيث قال:
فأقسمت لا أمشي إلى سرِّ جارةٍ
يد الدَّهر مادام الحمامُ يغرِّدُ
ولا أشتري مالاً بغدرٍ علمتُه
ألا كلُّ مالٍ خالط الغدرَ أنكدُ
وقد حث الإسلام على هذه الصفة العظيمة حيث قال: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (91) سورة النحل. وقال تعالى: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} (177) سورة البقرة.
الحلم
الحلم هو ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب، قال الجاحظ: الحلمُ ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك، الحلم صفة اتصف بها العرب قبل الإسلام، وقال حاتم الطائي:
تحلّم عن الأدنين واستبق ودهم
ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما
وقد حث على التحلي بهذه الصفة فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلْمُ والأناةُ « متفق عليه.
الأمانة
العرف العربي في الجاهلية قدّس الأمانة، ومن وصايا حاتم الطائي عند موته «ولا أؤتمِنْتُ على أمانةٍ إلا قضيتُها». وقد حث الإسلام على هذه الصفة الطيبة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (8) سورة المؤمنون . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذبن وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان) متفق عليه.
البعد عن الحقد والغضب
من الصفات السيئة التي يحذرها بعض زعماء العرب حيث أن من يصبح رئيساً أو عالي الرتبة في أي موقع يجب أن لا يحمل الحقد، يقول حاتم الطائي في إكرام أبناء العم وعشيرته ويذكر صفات أخرى هي صفات رئيس القوم التي لا يحمل الحقد:
يُفَكُّ به العانِي ويؤكَلُ طيِّباً
وما إنْ تُعَرِّيهِ القِداحُ ولا الخَم ْرُ
ولا أُظِلِمُ ابنَ العَمِّ إن كانَ إخوتي
شُهوداً وقد أودَى بإخوتِه الدَّهْرُ
عُنينا زماناً بالتصعلُكِ والغِنى
وكُلاً سَقاناهُ بكأسَيْهِما الدَّهْرُ
فما زادَنا بَغْياً على ذي قرابةٍ
غِنانا ولا أزرَى بأحسابِنا الفَقْرُ
وقد ذمّ الإسلام هذه الصفة، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِنِي قال: « لا تغضب» فردَّد مراراً. قال: « لا تغضب» رواه البخاري. كما أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كيفية إطفاء الغضب فعن عطية (وهو ابن سعد القرظي) رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النارُ بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». رواه أبو داود.
الصدق
الصدق من الصفات التي التزم بها الشعراء والحكماء في العصر الجاهلي، كم من مثلٍ أو حكمة قيلت في ضرورة الالتزام به، من صدق العرب في الجاهلية أنهم كانوا صادقين في هجائهم فمهما كان الهجاء شديداً فهو بعيد عن الفحش، وحاتم الطائي كان يصدق قوله فعلُه، كما وصفه ابن الأعرابي.
* * *
المراجع:
- بلوغ العرب للآلوسي، الأغاني للأصبهاني، ديوان حاتم الطائي، عيون الأخبار للدينوري، حائل ديرة حاتم للأنصاري، ود. فرج الله، حاتم الطائي سيرته وثقافة عصره للفايدي، نهاية الأرب للنويري.