العقيد م. محمد بن فراج الشهري
الكتابة حياة بل هي حياة في الحياة، والكتابة خلود في الحياة وفي الممات، وهي رئة الكاتب التي يتنفس بها في مسيرته، ويعيش بها مع شخصياته سواء منها ما يخالطها على سبيل الحقيقة، أو ما يبدعها على مدار التخيل، والكتابة هي الزاد الدافع للعيش. حين نتوقف عن الكتابة تصبح حياتنا خاوية وكأن الروح تتحول إلى مغارة تتردد فيها أصوات الخواء وعوالم الفراغ التي تتلاشى فينا وبنا، وقد تحولنا إلى مجرد أوراق هشة تنتظر الحصاد أو أعجاز نخل تنتظر الحريق أو مجرد أرقام في عالم الموتى السائرين على أقدامهم؛ لأن الموت هو الذي يقبع لنا خلف النافذة أو وراء الباب فحتى لا نسمع وقعه وننتظره مع دقات قلوبنا وتصاعد أنفاسنا التي هي خطواتنا إليه، فإننا نبني حياةً موازيةً بالكتابة، حياة تفوق حياتنا الواقعية عتاداً وعدة وامتداداً، حين نكتب قصيدة ما أو قصة أو خاطرة أو مقالة نقدية أو غيرها نضيف أياماً إلى أعمارنا وحياة إلى حياتنا، بل قد نبتكر نظرية جديدة، ولا ريب أن الإنسان الأول الذي أدرك حقيقة ثنائية الموت والكتابة قد نقشها على الحجارة قبل القواميس وابتكر اللغة القديمة من هيروغليفية ومسند وغيرهما لكي يصنع بها ما يقاوم موته الذي رآه قريباً، وعمره الذي لا يكاد يكفي طموحه، ولكنه بالكتابة تجاوز الموت وعاش إلى اليوم، بل وسيعيش إلى ما شاء الله، أليس الأحرى بنا ونحن نملك أدوات الكتابة وآفاقها ووسائلها ألا نتوقف عنها؟ لا لشيء إلا لأننا لو توقفنا عن الكتابة وهي وجه آخر للعلم والأمل فإننا حينها قد حكمنا على أنفسنا بالموت، وصرنا بدونها من الصنف الذي يعيش ميتاً، وهو ما يزال يتنفس لا من الصنف الذي يتحرك فكراً وروحاً، وكلمة وخلوداً، فالناس صنفان موتى في حياتهم، وآخرون ببطن الأرض أحياء، كما قال أمير الشعراء، ورحم الله عبقري الرواية وعباقرة الأدب والحَرف في كل جيل الذين ما يزالون بيننا لأنهم كتبوا، وما يزالون يعيشون رغماً عن الموت، فالكتابة كالمادة لا تفنى ولا تتلاشى، ولكنها تزرع في نفوس كثيرة، وتسري في عقول متجددة.
واليوم الذي يمر في حياتي من دون قراءة أو كتابه لا اعتّد به, بل إنني أتألم كثيرًا حين تشغلني بعض المشاغل الحياتية أو اليومية عن هذا الميدان الذي اجد فيه مرفأ الروح وعالمها, وأتلمس فيها انسانية الانسان الحقيقي وتجلياته, حين نكتب أو نقرأ ما يقودنا الى الكتابة, وكل منهما - القراءة والكتابة - وجهان لروح واحدة, فمن قرأ لابد انه سيكتب, ولو بعد حين, ومن يكتب يحتاج في كل كتابة جديدة الى تجديد أفكاره, وعوالم خياله, وتطلعات روحه, من خلال قراءة جديدة مختلفة ومقصودة, ولهذا في تصوري إن ما يشدنا الى الحياة ويجعلنا نقاوم جفاء العالم حولنا وتقلباته, وآلامه, وأحزانه, بما يتخطف الناس من حولنا, ومما يتسبب في كثير من مآسينا, إنما هي الكتابة والكتاب, وانّ ما يواسينا ويسلينا هو ذلك القبس من الضوء الذي تتيحه لنا الكتابة بمعناها الواسع وبساتينها المختلفة, وعوالمها العميقة, المخففة للقسوة والمحققة للأمل والقوة, والحياة, وهي عملية إبداعية مستمرة ومتجددة يمارسها الكاتب الحقيقي المبدع بحريته التي أودعها الله فيه وفينا إدراك الجمال دون وصاية من احد فلنقرأ ولنكتب ولنفكر لنحس بوجودنا ونضيء الطريق لمن يحتاج اضاءات في عالم كثرت فيه المتغيرات والملهيات, لابد من القراءة والكتابة فهي الحياة, نعم هي الحياة.